تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والأديان.

ثم جاء الإطناب في بيان عجزهم فـ: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)، على جهة الفصل لشبه كمال الاتصال بين البيان والمبين، فلا يستجيبوا لكم، لنقص في سمعهم، ولازمه النقص في علمهم، فلا يعلمون من حالكم شيئا لا قبل خلقكم تقديرا، ولا بعده تأويلا لما قد قدر أزلا من أصوات الخلق معروفة كانت أو منكرة، فذلك نقص في العلم، ولو سمعوا: فذلك من قبيل الفرض العقلي المحض فلا حقيقة له في الخارج، فـ: (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ): فـ: "لو": وصلية إمعانا في بيان عجزهم، فلو قدر أن لهم من السمع والعلم ما يدركون به أصوات من يدعوهم، فلن يستجيبوا لعجزهم التام، فذلك نقص في القدرة، فلا علم لهم ليُقَدِّرُوا ولا حكمة لهم ليدبروا ولا قدرة لهم لينفذوا، فـ: (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، فثبت لهم نقص الوصف الذي يلزم منه بداهة: نقص الفعل، فلا يستجيبون لمن دعاهم، فصار دعاؤهم من دون الله، عز وجل، عين النقص في فعل العبد وتوحيده العملي الإرادي، فلا ينفك عن فساد أول في توحيده العلمي الخبري، فاعتقد فيهم: كمال وصف لا يكون إلا للرب، جل وعلا، فذلك فساد في توحيد الرب، جل وعلا، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، واعتقد فيهم كمال فعل بالاستجابة التي لا تكون إلا للرب، جل وعلا، فهو المجيب الذي: (يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ)، فذلك فساد في توحيد الربوبية، توحيد الرب، جل وعلا، بأفعاله، فلزم من ذلك الجهل العلمي المركب: فساد عملي هو أثره الضروري، على ما تقدم مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن تأثيرا والظاهر تأثرا، فالآية تدل بمسلك التنبيه والإشارة على وجوب إفراد الرب، جل وعلا، بأنواع التوحيد الثلاثة، فالشرع والعقل والحس لها شاهد، فـ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فالعقل الصريح قاض بإفراد من له كمال الوصف الذاتي اللازم والوصف الفعلي المتعدي، قاض بإفراده، جل وعلا، بالتوحيد العملي باطنا فلا يخاف ولا يرجى إلا هو، وظاهرا فلا يعبد إلا هو، ولا يعبد إلا بما شرع على ألسنة رسله عليهم السلام، ولا تحكم الأرض إلا بشريعته المنزلة، فـ: (مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).

وذلك ما يأباه رءوس الضلالة الدينية من أصحاب الديانات الكهنوتية، ورءوس الضلالة الدنيوية من أصحاب الشرائع الأرضية، وفي زماننا بل في كل زمان يبرز مثال الكنيسة والعلمانية، فالتحالف بينهما لحرب أهل الحق تحالف وثيق، وإن كان استراتيجيا مؤقتا، فالرؤى متباينة والأهداف متعارضة، فكلٌ يروم حرب الحق والقضاء عليه، وكلٌ يروم الطغيان، ولكن الأولى تريده دينيا كهنوتيا برسم الأسرار المقدسة التي يردها الشرع والعقل والحس، والثانية تريده دنيويا حكميا برسم الشرائع المبدلة والسياسات الجائرة التي يشهد فساد حال العالم الآن ببطلانها فهي متباينة بتباين عقول من أحدثها، متعارضة فلكلٍ عقل، مضطربة فلا ينفك العقل البشري عن غفلة أو آفة، قاصرة لقصور علوم البشر عن إدراك المغيبات فلا يعلمون إلا الحال والمستقبل القريب تخرصا، فلا يعلمون المستقبل البعيد في هذه الدار، ولا المستقبل الأبدي في دار الجزاء فذلك مما لا يتلقى إلا من مشكاة الوحي الذي فصل القول في الأخبار والأحكام، فلا أصدق من خبره ولا أعدل من حكمه.

ثم جاء التذييل بحال الالهة في دار الجزاء بعد بيان حالها في دار الابتلاء:

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: فقابل بين دعائهم في أول السياق، والشرك في آخره، فالشرك في الدعاء شرك في العبادة، فـ: "الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ" على جهة القصر بتعريف الجزأين، والتوكيدد بضمير الفصل فهو من أظهر صور العبادة بل هو باعتبار ما يقوم بقلب الداعي من الخشية والرجاء، لب كل عبادة، فلا تكون عبادة إلا بذل وخضوع ورجاء، فالعابد مظنة التذلل لمعبوده، وإلا كان ندا مساويا له.

وإضافة الشرك إلى الضمير مئنة من العموم، فيشمل، كما تقدم، كل صور الشرك الناقض لتوحيد الباطن العلمي والظاهر العملي.

وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ: فهو العليم بدقائق ما يقوم في القلوب من خفي التصورات والنوايا والإرادات، في مقابل حجب غيره عن الاطلاع على تلك الأسرار التي لا يطلع عليها إلا من خلق الصدور الحاوية لها.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير