تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نصوص التوراة والإنجيل التي تشهد بالتوحيد الذي نقضوه والنبي الذي أنكروه، فـ: (لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)، ولا سبيل الآن إلى تمييز المحفوظ منها من المبدل، لتصح الفتوى بتحريم مس الجنب له، فالعلة الصحيحة في هذا الباب، والله أعلم بالصواب، أنه كتاب منزل محفوظ فهو كلام الله، عز وجل، يقينا قطعيا، وليس ذلك وصف التوراة والإنجيل في زماننا، بشهادات علماء أهل الكتاب فضلا عن شهادة التنزيل المحفوظ: (وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)، فأصولها مفقودة وأسانيدها مقطوعة بل معدومة!، فكيف يقاس حكم مسها على حكم مس التنزيل الخاتم الذي حفظت أصوله فنقلت بالتواتر اللفظي والرسمي، فأسانيده قد بلغت حد التواتر الذي يفيد قطعية ثبوتها وصدورها من صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم: صدور البلاغ من المبلِّغ، فـ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، فصدرت من الرب، جل وعلا، صدور الوصف، وصدرت من الرسول الملكي صدور الوحي، وصدرت من الرسول البشري صدور البلاغ لكلام الرب، جل وعلا، بألفاظه ومعانيه، فهو كلامه، جل وعلا، مبنى ومعنى.

والشاهد أن الإيذاء للأتباع، كما تقدم، إيذاء للمتبوع، فـ: (الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا): فيؤذونهم في أديانهم بالشبهات والشهوات، ويؤذونهم بالفتنة في الدين ترغيبا وترهيبا، ثم أسرا وقتلا وتنكيلا بضعيف لا يملك دفع الظلم أو رفعه لا سيما بعد تخاذل أهل الإسلام وراثة! عن نجدته بل قد صار كثير منهم حربا عليه! فليتهم كفوا أذاهم عنه، وتشريدا لهارب مستخف بدينه في بعض ديار المسلمين!، وجاء التكرار للموصول في صدر الآية، لطول العهد، وجاءت الصلة، أيضا، مضارعة، مئنة من الحدوث والتجدد فضلا عن حصول العموم المعنوي، فالموصول نص فيه، والحكم قد علق على المعنى الذي اشتقت منه، وهو معنى عام، وإن ورد في سبب نزول الآية أنها نزلت في صور خاصة من الإيذاء لأعيان من المؤمنين فورد أنها نزلت في حادثة الإفك أو إيذاءِ وقع لعلي رضي الله عنه، كما ذكر ذلك أبو السعود، رحمه الله، فذلك من قبيل ورود العام على سبب فلا يخصصه، فيعم الحكم كل من توصل إلى إيذائهم بإضمار الشر، أو بالتعدي بالقول أو العمل، وجاء النص على المؤمنات، مع أن الأصل في خطاب التنزيل: العموم فورود صيغ التذكير فيه يجري مجرى التغليب فيعم الرجال والنساء معا إلا لقرينة تخصيص أحد الجنسين بالحكم، جاء النص عليهن لكونهن مظنة الضعف، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فإيذاؤهن أقبح عند أصحاب المروءات، ولو كفارا، من إيذاء الرجال، فالشريف لا يرضى لنفسه بهذه الوصمة فيأبى أن يرتكب هذه الجناية، فكيف إذا كان ذلك مشفوعا بإيذاء صاحبات الديانة بالسب والاستهزاء، وأخيرا بالضرب والإسلام إلى الكافرين!.

وجاء القيد: "بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا": احترازا، فقد يكون إيذاؤهم مشروعا بل واجبا كإيذاء أصحاب الجنايات بالحد والتعزير، فذلك نوع أذى خاص لحفظ المصلحة العامة للجماعة المسلمة بنفي خبيثها وردع فاسقها، وهذا اختيار أبي السعود، رحمه الله، وهو جار على الصورة القياسية للتقييد بالحال فله منطوق يتعلق فيه التحريم بإيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، ومفهوم يتعلق فيه الجواز وربما الوجوب إذا كان ذلك بجناية اكتسبوها توجب حدا أو تعزيرا، وأما صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فلم يجعل للكلام مفهوما، فذلك من قبيل الوصف الكاشف كما في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)، فليس من الإثم والبغي ما هو بحق، وليس من الشركاء ما أنزل الله، جل وعلا، بشركه سلطانا، فذلك منتف بداهة!، فيكون المراد في آية الأحزاب التنفير من إيذاء المؤمنين بإيراد صورته على أقبح صورة يمجها أصحاب الديانات والمروءات، فالإيذاء بغير حق مما ينفر منه كل ذي عقل وجبلة سوية، فضلا عن ديانة صحيحة، فكيف إذا توصل إلى المؤمنين بالأذى، بل إلى المؤمنات المستضعفات، بل كان ذلك لأجل دينهن وإيمانهن!.

فقد احتملوا: فذلك مئنة من الافتعال، ففيه مبالغة في المعنى فرعا عن الزيادة، فاستعير التكلف في الحمل الحسي، استعير لصورة معقولة إمعانا في بيانها في معرض التنفير منها، وزيد من التنفير بالتذييل بـ: (بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً)، فنكر البهتان تعظيما وعطف عليه الإثم منكرا بقيد "مبينا" فهو ظاهر القبح لكل ذي لب ومروءة إلا من طمس الله، جل وعلا، على عقله وقلبه ففسد عقله بأن طبع الله، جل وعلا، عليه، فزين له إيذاء أهل الحق بل جوز له ذلك بحجج واهية فجعله من المهام الشريفة فهو يحارب التطرف ويحفظ الأمن ويكافح الاضطهاد الديني!.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير