تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما في سياق تال في نفس السورة، فلا أسرار فيه إذ ليس فيه ما يستحى من ذكره علانية، فلسان مقال نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وليس فيه ما يلجئ صاحبه إلى تكلف تأويل يصير الشريعة واللغة: لعبا!، فلا يشهد لها نقل أو عقل أو لسان أو فطرة سوية تدرك إجمالا كمال ذات وصفات رب البرية، جل وعلا، فتأتي النبوة لتبين هذا المجمل فبها عرف المكلف التوحيد خبرا وإنشاء، فعلم من أخبار الصفات والأفعال ما شهد بعقله وحسه آثاره في الكون مبثوثة، فـ: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فثبت عنده يقينا وحدانية الرب الخالق المدبر، جل وعلا، في ذاته القدسية، وأحديته في صفاته العلية، فلا يُجري هذا الكون على هذا السنن المتقن إلا رب عليم لطيف خبير، يعلم دقائق الصنعة، فالرب، لا يكون إلا عليما بخلقه علم إحاطة فـ: (عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، فليست علومه كلية مجملة لا يدرك بها الأمور الجزئية المفصلة، كما زعم الفلاسفة، بل شمل علمه المجمل والمفصل، فمن التقدير الكوني: تقدير عام، فهو العام الذي لا أعم منه فـ: "كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ"، فالمركب الإضافي: "مَقَادِيرَ الخَلائِقِ": من صيغ العموم لأن المضاف إليه معرف كما قرر أهل الأصول، وذلك عموم محفوظ لا مخصص له، ومنه تقدير أخص هو التقدير الميثاقي، ومنه تقدير أخص هو التقدير العمري، فالسنوي، فاليومي، فعلم الكلي المجمل، والجزئي المفصل، فإذ ثبت ذلك عنده: فيلزمه ضرورة شرعية وعقلية أن يقيم وجهه للدين على رسم الحنيفية فيميل عن الشرك إلى ضده من التوحيد، فينبذ أديان الخرافة والحقد التي أسست بنيانها على إبطال النبوات بتكذيب أخبارها ونقض أحكامها التي كثيرا ما تنتسب إليها زورا وبهتانا، فالنبوة لم تدع البشر إلى عبادة البشر برسم الغلو المقيت، فـ: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، وإنما رءوس الضلالة سواء أكانوا رءوسا في الدين الباطل أم في الحكم الجائر، كما تقدم من عموم هذا الأمر للدين والسياسة معا بل كثيرا ما يقع التحالف الآثم بينهما لقهر العباد وإذلالهم فكلٌ يظلم بسلطانه الغاشم، فإنما أولئك هم الذين يدعون أتباعهم إلى عبادتهم بلسان الحال بل بلسان القول والفعل، فيقع بذلك الفرقان ضرورة بين: النبوة التي يقام فيها الوجه للدين الحنيف فترتفع الرءوس الشريفة التي تأبى الخضوع لغير الرب المعبود بحق جل وعلا، والكهنوت الديني والحكم الدنيوي فلا يجتمعان مع نبوة، فإذا جاءت النبوة زهقا ضرورة فـ: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، فحيث كانت نبوة فثم حرية دينية حقيقية لا وهمية كحريات زماننا التي تبيح الكفر ولا تبيح الإيمان، وحيث كانت نبوة فثم عدل في أحكام الدنيا، فلا تستقيم أمورها إلا في ظلال التنزيل، فذلك، أيضا، من إقامة الوجه للدين الحنيف، فالحنيفية عامة لكل حركة باطنة وظاهرة، لازمة أو متعدية، فردية أو جماعية، محلية أو دولية، فإذا كان أصلها في القلب ثابتا، فـ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، ففروعها لا بد أن تؤتي أكلها كل حين، فتؤتي أكلها في أعمال القلب فتصح إراداته، وتؤتي أكلها في أقوال اللسان فلا يشهد إلا بالحق، ولا ينطق إلا بالخير، وتؤتي أكلها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير