تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقل مثل ذلك في غلو من يغلو في الأئمة والصالحين، فذلك من الغلو في النِّحل، وقد يصير في أحيان كثيرة أشد مقتا من الغلو في الملل، فأهل البدع المغلظة يستحلون دم المخالف برسم الديانة، ولعل ما وقع في أرض الرافدين من خيانة بتمكين اليهود والنصارى منها، ثم التعاون معهم لاستئصال أهل الحق قتلا وتهجيرا، لعل ذلك خير شاهد على ذلك الغلو المقيت، وإن انتسب كلاهما إلى قبلة واحدة، وقل مثله، أيضا، في الغلو في أصحاب المذاهب الفقهية، فالتقليد في الفروع وإن كان أخف وطأة إلا أن قصص الغلو فيه مما يتندر به أصحاب المذاهب، وما ذلك أيضا إلا فرع عن الغلو في صاحب المذهب حتى صار قوله حجة بنفسه وليس ذلك إلا إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيستدل بقوله فهو أصل بنفسه كما قرر ذلك أهل الأصول، وتلك حجة الشافعي، رحمه الله، في تقديم قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على قول الصحابي، فالأول أصل، والثاني: فرع، ولا يعارض الأصل بفرع، وأما غيره فيستدل لقوله، وما نشأ الخلاف والتعصب في الديانة وهو أشد أنواع الخلاف ما نشأ، كما تقدم، إلا عن ذلك الغلو المقيت، ولذلك حسن إيراد القصر في معرض نقضه بأقوى أساليبه: النفي والاستثناء، وجاء التقييد بالحال مؤكدا بالناسخ واللام في خبره، وذلك من جنس القصر في قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، في معرض تقرير بشرية المسيح عليه السلام، فما هو إلا رسول كغيره من رسل الله، عز وجل، وإن كان من خيرتهم فهو من أولي العزم، عليهم السلام، إلا أن ذلك لا يخرجه عن طوره البشري إلى طور لاهوتي مزعوم تتحد فيه الذات الإلهية أو وصف من أوصافها العلية بكائن حادث بعد أن لم يكن، فذلك من جنس من قال بحلول كلام الباري، عز وجل، في أعيان مخلوقة، كالشجرة التي كلمت موسى عليه السلام، وهل تقول شجرة: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)؟!، ولازم ذلك ما سبقت الإشارة إليه مرارا من طروء النقص على الرب ذي الجلال والإكرام، تبارك وتعالى، أو طروء النقص على وصفه، فالحلول في الحادث أو الاتحاد به مظنة الامتزاج بذاته الحادثة فيكتسب الممتزج بها من أعراض النقص المركوزة فيها ما لا يليق وصف الرب، جل وعلا، به بداهة، لو كان ثم عقل فضلا عن ديانة!، فالفناء مآل كل حادث، والرب، جل وعلا، هو الأول والآخر بذاته القدسية وصفاته العلية، فاختلاط الأزلي الأبدي بحادث فان نقص لا يليق به، فذلك فرقان بين وصف الرب ووصف العبد، فلا يختلطان لتناقضهما فالأول ضده الحادث، فليس ثم إلا خالق أول ومخلوق حادث، فيباين الخالق، جل وعلا، المخلوق في الذات والصفات، فهو، جل وعلا، العلي البائن من خلقه بالذات والصفات، المستوي على عرشه فله علو الذات وعلو الصفات شأنا وقهرا، جمالا وجلالا، فهو الكريم فلا أكرم منه، ولا كريم يدانيه في كرمه، وهو الجبار فلا جبار يقاومه، فانفرد بكمال الجبروت، فليس ذلك لأحد من خلقه وإن عتا وتجبر فهو داخل في حد الوعيد في قول الجبار المتكبر جل وعلا: "الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ".

والشاهد أن الرسل بشر كالبشر يعرض لهم ما يعرض لعامة البشر من عوارض النقص الجبلية فيأكلون ويشربون ويحدثون وينامون ويتزوجون، وذلك وإن كان كمالا في حق المخلوق إلا أنه مما تنزه عنه الخالق عز وجل فهو كمال مقيد لا ينفك عن الحاجة والافتقار، ويمرضون مرض البدن لا مرض العقل لمكان العصمة، فقد سحر جسد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يسحر عقله، ودست له زينب بنت الحارث السم في كتف الشاة فوجد ألمه في بدنه لا في عقله، فعصمتهم: عصمة بلاغ فلا يسلمون كعامة البشر من العوارض الكونية الطارئة، وإن كان لهم من مظاهر الحفظ الرباني ما ليس لغيرهم فلهم المعية الخاصة وليست لغيرهم فـ: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) في معرض الرد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير