تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد تحمل: "من": على السببية، فحرجهم بسبب أخباره التي تنكرها نفوس غليظة لا تؤمن إلا بالمحسوس، وأحكامه التي تنقضها عقول فاسدة ليس لها حظ من المعقول، فمداركهم المحسوسة معطلة: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، ومداركهم المعقولة معطلة: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، فاجتمع لهم عمى البصر الظاهر، فهو مئنة من فساد المحسوس، وعمى البصيرة الباطن، فهو مئنة من فساد المعقول.

لِتُنْذِرَ بِهِ: فنزل بآيات الترهيب نذارة، فـ: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)، ونزل بآيات الترغيب بشارة، فـ: (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).

وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ: فنكرت الذكرى مئنة من التعظيم، فذكرى التنزيل أعظم تذكرة، فـ: (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ)، وقصر الذكرى على المؤمنين لدلالة اللام على الاختصاص ليس بمانع من دخول غيرهم فيها، لقرينة عموم التشريع، فهو لهم ابتداء، فذلك من بيان الواقع فيجري مجرى الوصف الكاشف، ولغيرهم تبعا، فهو ذكرى عامة لكل مؤمن فيحمله على الثبات فـ: (لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، فالثبات منحة ربانية فلا يثبت إلا من ثبته الله، عز وجل، في ميادين العراك العقلي بالحجج والبراهين، والبدني بالسيوف والأسنة، وهو ذكرى عامة لكل كافر فيحمله على الانتقال من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان فـ: "يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ".

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ:

فذلك تأويل الخبر في الآية السابقة، فتأويل التنزيل تصديقا: العمل بأحكامه امتثالا لأمره ونهيه، فـ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ: فابتداء الغاية من الرب، جل وعلا، تنزيلا، لكلماته الشرعيات الحاكمات، مئنة من العناية التي حسن معها إيراد اسم الرب، جل وعلا، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فالرب هو الذي يرب عباده بنعمه الكونية فذلك غذاء البدن، ونعمه الشرعية، وأعظمها، كما تقدم مرارا، الوحي، فذلك غذاء الروح، فاتبعوا: أمرا، وفي مقابل الأمر: نهي على جهة طباق السلب تقريرا للمعنى المأمور به بإيراد ضده المنهي عنه:

وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ: فالضمير في "دونه": يحتمل الرجوع على الرب، جل وعلا، فمقابل الرب الواحد، جل وعلا، الأولياء فما أكثرهم، فمن البشر من اتخذ الولي المحسوس فدعا غيره رغبة ورهبة، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فمقابلهم: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ): على جهة القصر إمعانا في مخالفة سبيل المجرمين.

ومن البشر من اتخذ الولي المعقول فـ: (على علم)، فيقدم هواه على حكم الوحي، ومنهم من اتخذ هوى غيره من طواغيت الأرض وليا، فيقدم حكمه على حكم الوحي، وتلك مئنة من كمال الولاية، فالولاية تقتضي تقديم الولي محبة واتباعا على غيره.

ويحتمل الرجوع على الموصول: "ما"، فيلزم له تقدير محذوف من قبيل: اتبعوا ما أنزل إليكم من دين ربكم ولا تتبعوا من دونه دين أولياء لا يملكون ضرا ولا نفعا، ولا حياة ولا نشورا، فليس لهم من وصف الربوبية شيء ليصح في الأذهان صرف شيء من أجناس التأله لهم: تعبدا بشعار باطن من خوف أو رجاء أو شعار ظاهر من ركوع أو سجود، أو تشريعا بتقديم حكمهم على حكم الرب الحكيم، جل وعلا، فهو الإله الشارع لكمال علمه وحكمته.

ثم جاء التذييل بالإنكار فـ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ: فلا يتذكرون ابتداء، فذلك من قبيل قوله تعالى: (فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ)، كما حكى ذلك أبو السعود، رحمه الله، وجها في تأويل هذه الآية.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير