تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الحق، وضرب لذلك مثلا جليلا هو دعوة الصديق، رضي الله عنه، وقد حمل أعباء الدعوة إلى الدين الخاتم من لحظة إسلامه إلى لحظة مماته، فتوسم فيمن توسم من أفاضل قريش الذين كانوا يغشونه لما يجدونه من طيب معشره وحسن صحبته وسخاوة نفسه وكرم أخلاقه وسعة علمه، فهو المألوف المحبب إلى الناس، القائم بدياتهم، ولا يقوم بها في قريش إلا أهل الفضل والصدق، وهو الصديق اسما ورسما، فتوسم في ثلة صارت بعد ذلك بيضة الإسلام الأولى فنالها من عناية الوحي ما لم ينل غيرها، فكانت النواة التي تنحاز إليها الحواشي، والموضع الذي يأرز إليه الناس حال الشدة والزلزلة، فلا صمود لأمة في وجه المحن إلا بنواة كتلك النواة الصلبة التي تستعصي على الكسر والقهر لما نالها من ضروب التربية الشرعية، فعلى يد صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم تربوا، وعلى عينه صنعوا، وبخلقه تأسوا، فـ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، وما سقوط الأمم والدول في زماننا بما فيها دول المسلمين إلا لفقدان تلك النواة، فليس الهدف، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، أن يكون الجيش كله على رسم الصديق والفاروق، رضي الله عنهما، فذلك محال لتباين الطباع وتفاوت القدرات، ولكن لا بد لأي جماعة إنسانية من أبي بكر وعمر تأوي إليهما في المحن والخطوب، فقد آوى الأصحاب، رضي الله عنهم، وهم خير طباق العالمين بعد الأنبياء والمرسلين، آووا إلى ركن الصديق، رضي الله عنه، بعد وفاة القائد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وردة جمع كثير من الحواشي التي لم تنل ما نالوه من الصناعة النبوية المحكمة، فزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، وكان الصديق، رضي الله عنه، قدر الرب، جل وعلا، الذي حفظ به الديانة من النقصان، وثبت به المهاجرين والأنصار فـ: "خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود"، فله من شجاعة الديانة وشجاعة الحرب والسياسة ما ليس لغيره، ولو كان أشجع منه في قتال الأبدان، فتلك أدنى مراتب الشجاعة.

والشاهد أن المهاجرين ابتداء ثم الأنصار بعدهم، قد نالهم من أخلاق صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم حظ عظيم، فصاروا أهلا للصدارة، وإن كان للمهاجرين السبق، فعودهم أصلب لما لاقوه من ضروب الابتلاء والتمحيص في مبدأ الرسالة، فحبهم دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق، فـ: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله"، فقدم المسند إليه تشويقا، وجاءت المقابلة بين الإيمان والحب، والنفاق والبغض، تقريرا للمعنى بذكر المنطوق المشروع بل الواجب المحبوب، والنص على المفهوم المحظور بل المحرم المذموم، فالمنطوق كاف في بيان حكم ضده، فآية الإيمان حبهم فذلك يفيد بمفهومه ضرورة أن آية النفاق بغضهم، ولكن لعظم الأمر حسن التنبيه على المعلوم ضرورة إمعانا في تقرير المعنى حضا على لزوم ما تصح به الديانة، فأصل الولاء والبراء: حبا للمؤمن وبغضا لضده من كافر أو منافق، أصل جليل هو التأويل الفعلي للتصور العلمي لمسألة الإيمان، فليست مسألة نظرية بحتة تحصل السلامة فيها بمجرد التصور الذهني المحض فلا ينفع التصديق المجرد بلا شاهد عدل من قول اللسان وعمل الجوارح، ومنها الجارحة القلبية الباطنة التي يقوم بها من أجناس الإرادات ما يشهد للتصديق الأول من حب لأهل الإيمان، والمهاجرون والأنصار أعلاهم طبقة، فهم الصدر الأول في كل فضيلة دينية ومكرمة أخلاقية، أو ينقضه من بغض لأهل الإيمان وميل عنهم إلى أهل الكفر والإلحاد، كما هي حال كثير من المنافقين في زماننا، فقد استعلن منهم من استعلن بما في قلبه من نية سوء وإرادة شر بالمؤمنين لا سيما المستضعفين الذين لا ناصر لهم في زمان الذلة إلا الرب، جل وعلا، فلا دين ولا مروءة في نفوس ألفت الذلة، فظاهر أهل الكفران على أهل الإيمان، وتآمر معهم لخذلان المؤمنين المستضعفين وفتنتهم في الدين، فتلك أعظم فتنة، وتلك من أظهر أمارات النفاق الأكبر كما قرر ذلك جمع من المحققين، فحسن التنبيه على المفهوم مع علمه ضرورة حضا على لزوم ذلك الأصل الجليل، ولو بالقلب، فـ:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير