تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن الاستئناف قد جاء بيانا لأوصاف التابع عقيب بيان أوصاف المتبوع، فوصفه من وصفه فمن مشكاته قد صدروا، وعلى عينه قد صنعوا فكانوا نواة صلبة تجمع حولها الصدر الأول، فذلك جيش النبوة الذي أرسل، كما أرسل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، برسم: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، فأرسل أهل الحجة والبرهان من العلماء الربانيين على أهل الشبهات: شهبا ثاقبة فدحضوا مقالات الملل والنحل فكل مقالة تباين مقالة النبوة الأولى باطلة نقلا وعقلا فليس ثم إلا النقل من الرب تشريعا والعقل منه تكوينا فالتناقض بين التشريع والتكوين محال عقلا، وأرسل أهل السيف والسنان من المقاتلين على أهل العدوان الذين لا ينفك عدوانهم على الأديان عن عدوان على الأبدان، فهو تأويل ما يقوم بالنفوس من الإرادات التي لا تصدر إلا عن تصورات علمية تنشأ من النقل الباطل برسم التحريف أو العقل الفاسد برسم التأويل فما جنى على الرسالات إلا تحريف المبطلين وتأويل الغالين، ولأجله ابتعث الله، عز وجل، بقدره الكوني، من ابتعث من الرسل عليهم السلام وأتباعهم، لينفوا عن الفطرة الأولى ما علق بها من كدر المقالات والأهواء، فكير الوحي الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام وحمله الأتباع من بعدهم ينفي خبث الكفر والبدعة، وعلى هذا الوجه حمل صاحب "التحرير والتنوير" قول من جعل الواو عاطفة فهو: (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)، وأرسل الذين معه، فيقدر محذوف متأخر من جنس المذكور المتقدم، فذلك أولى من تقدير غيره، وإن كان التقدير ابتداء خلاف الأصل، فيقدر المحذوف الذي دل عليه السياق اقتضاء لو حمل على العطف، بخلاف الاستئناف، كما تقدم، فلا يلزم له تقدير محذوف، ولكل وجه، ولا مانع من حمل السياق على كلا الوجهين، فذلك إثراء للمعنى، ففي الأول: بيان لوصفهم فهم: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، وفي الثاني: بيان لوظيفتهم، فقد اصطفاهم الرب، جل وعلا، لتبليغ الرسالة إلى بقية الأمم، كما اصطفى الرسل عليهم السلام لتبليغ الرسالة إلى النوع الإنساني فهم الواسطة بين الحق والخلق، فكلاهما اصطفاء، وإن كان الثاني أخص، فاصطفاء النبوة لا ينال باكتساب، واصطفاء الصحبة الخاصة للأنبياء عليهم السلام لا ينال، أيضا، بالاكتساب، فالصحبة، وإن كانت دون النبوة، مرتبة سامية لا مطمع في دركها، فهي اختيار رباني كما تقدم من كلام ابن مسعود رضي الله عنهما، واصطفاء الصحبة العام، فأتباع النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى قيام الساعة: أصحابه بالاتباع وإن لم يلقوه بالأبدان، فتلك المرتبة التي تنال بالاكتساب ويترقى فيها أصحاب الهمم الشريفة من العلماء فهم أعلم الناس بأخبار الرسالة وأحكامها، والمجاهدين فهم أصدق الناس شهادة على صحة الرسالة فقد بذلوا من الدماء والجراحات ما شهد يقينا على صدق النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا زالت الشهادات تترى من آحاد المؤمنين والمؤمنات الذين خرجوا من حزب الكفر برسم الهجرة، ولو مستضعفين، فصدر منهم ما يعجز عنه كثير من الأقوياء القادرين، الذين لا حظ لهم من الدين، وإن عظم نصيبهم من أسباب الدنيا من رياسة ووجاهة ..... إلخ، فليس الأمر إلا قلبا راسخا لا تصده أجناس الترغيب والترهيب بل والتعذيب والتقتيل عن السبيل القويم، سبيل: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)، وإن كان البدن ضعيفا مهانا، فكرامة الروح على ربها، جل وعلا، ترفع ذكر صاحبها، فله الثناء الجميل على كل لسان، فـ: "أنتم شهداء اللَّه في الأرض"، فلا عبرة ببدن قوي منعم قد تيسرت له أسباب الدنيا، وهو عن الدين غافل، فمادة الضعف والفساد فيه كامنة، وروحه لم تزل في ضنك الشقاء حاضرة، فـ: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فالمعيشة الضنك لا تجدي معها وسائل الترف المادي، فلا تزيد الروح إلا تعاسة، وإن كان ظاهر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير