تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ: فتلك إشارة إلى المنقضي قريبا، على طريقة العرب في الإشارة إلى المنقضي، ولو قريبا، بإشارة البعيد، فقد انقضى وانتهى، وهو جار، أيضا، مجرى الإشارة إلى تلك الخصال المحمودة إشارة البعيد تنويها بذكرها وتعظيما لشأنها.

فذلك مثلهم العلمي في التوراة كما نقل ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله من سفر التثنية.

وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ: فذلك من التشبيه التمثيلي المجزأ، فاستعيرت صورة ظهور النبتة ضعيفة ثم تقويها بالشطأ وهي الفروع، وهم الأصحاب، رضي الله عنهم، الذين بذلوا في أم القرى، وآووا ونصروا في طيبة، وهو مجزأ من وجه تربوي لطيف ذكره صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالباذر هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والبذر هم نواة الإسلام الأولى من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فهم حجز الزاوية الصلب، ومركز الديانة الراسخ الذي دار في فلكه الشطأ الذي كثر بعد تمام استواء العود، فصلبت نواة الديانة بما مر على السابقين الأولين من ضروب الابتلاء والتمحيص، ثم تجمع حولها الجند المخلص الذي كان ذخيرة الفتح الراشد لأمصار العالم القديم برسم: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ)، فأخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الرب، جل وعلا، الكوني، فقدروا المنة الربانية حق قدرها، فحملوها كتاب هداية وسيف عدالة إلى أمم الأرض المقهورة برسم الطغيان الديني والسياسي.

فلا بد لكل دعوة من قادة راسخين، يأرز إليهم الأتباع في النوازل، فبهم يثبت الرب، جل وعلا، القلوب والجيوش، فهم مادة النصر في أي فتح برسم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَغْزُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ".

فـ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ: ومنها استنبط مالك، رحمه الله، كفر من غاظه أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم على تفصيل ذكره أهل العلم، فمن غاظوه لأجل دينهم وما بذلوه نصرة له وتأييدا فهو كافر فما غاظه إلا الوحي، ولا يكون ذلك، بداهة، إلا من كافر به، فـ: (إِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، فذلك حال الكفار الأصليين وأذنابهم من المنافقين في كل عصر ومصر، وإذا آنسوا ضعفا أو ذلة كما هي الحال في زماننا استعلنوا ببعض ما في صدورهم من الغل، فنالوا من الرسالة وصاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبا وقدحا فـ: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، ومن غاظوه لأمر دنيا فليس بكافر، وإن كان على خطر عظيم فحملان الغيظ لصفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، حملانه من أي وجه مظنة الهلاك.

ثم جاء الوعد على جهة الماضوية مئنة من تحققه، فهو كائن لا محالة، وذلك، أيضا، مئنة من عدالة الصدر الأول الذي حاز شرف الصحبة الخاصة، فهم أولى الناس بداهة: بالوعد الرباني بالمغفرة والأجر العظيم.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا:

فـ: "من": لبيان الجنس، فجنسهم موعود بذلك، كما أشار إلى ذلك ابن هشام رحمه الله في "مغني اللبيب" في معرض نقض مقالة أهل البدع الطاعنين في الصحابة رضي الله عنهم بادعاء التبعيض الذي يثبت الحكم لبعض منطوقا تحكموا في تعيينه حتى أخرجوا الصدر الأول كله من الدين إلا آحادا وينفيه عن بعض آخر بل هو الجمهور كما تقدم فقد ارتد الصدر الأول من المهاجرين والأنصار الذين رباهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالتنزيل فصنعوا على عين الوحي ارتدوا إلا ثلاثة أو خمسة ..... إلخ! وذلك ما لا يقع فيه آحاد المربين من المصلحين ولو على منهاج أرضي فكيف بخاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم المبعوث بالمنهاج الرباني؟! فتصور هذا الفرض العقلي المحال ثم انتحاله وجعله من أصول الديانة نقض لها بإبطال نقلها بل نقض لبدائه العقول الضرورية!، فليست "من" للتبعيض إلا على وجه لا يلزم منه تخصيص بعض الأفراد دون بعض، فذلك قول يؤيد ما ذهب إليه من طعن في عدالة الصحابة، رضي الله عنهم، من المبتدعة والزنادقة، كما تقدم، بل يجري مجرى التمثيل للعام بذكر بعض أفراده فلا يخصصه، كما تقدم، فمن حمل الآية على الخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم، كابن بطة، رحمه الله، في "الإبانة الكبرى"، وكما نقل الماوردي عن الضحاك، أو حملها على أصحاب الحديبية، فإن ذلك لا يعني بداهة قصر الوعد عليهم بل يعمهم ابتداء، ويعم غيرهم قياسا عليهم فوصف الصحبة هو الوصف المؤثر في ثبوت هذا الوعد، فيقاس بقية الأصحاب، رضي الله عنهم، عليهم، فعلة الحكم ثابتة في الفرع ثبوتها في الأصل.

وجاء التذييل بالمغفرة فذلك من باب التخلية فالمحل دنس بالذنوب، وبالمغفرة تحصل الطهارة له، فيصير المحل أهلا للتحلية بالأجر العظيم الذي نكر تعظيما كتنكير المغفرة التي تقدمته في الذكر، ثم جاء النص على الوصف بالعظمة صراحة إمعانا في تقرير المعنى، وحذف من المقدم لذكره في المؤخر فلا يحسن التكرار لما قد علم بداهة، فالعقول تدرك عظم المغفرة الربانية فذلك من البدائه الضرورية، والسياق قد دل على ذلك على معهود التنزيل في حذف ما دل السياق عليه فذلك جار مجرى ما قرره أهل البلاغة من إيجاز الحذف.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير