تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكاثوليك والأرثوذكس، ثم الكاثوليك والبروتستانت، تصارعها خير شاهد على ذلك، وقريبا منه تصارع السنة وأهل البدعة المغلظة في بلاد الرافدين وإن شئت الدقة فقل خيانة أهل البدعة وتسلطهم بالقتل والتشريد على أهل السنة فما استعملوا معهم من العدل ما استعمله الأولون حال ظهورهم فالسلطان يفضح أخلاق صاحبه فذلك من جنس الابتلاء بالتمكين فـ: (نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وإن كانت الحال في دين الإسلام أفضل لما تقدم من حفظ أصول الديانة، فهي مرجع يحتكم إليه عند وقوع التنازع، فيعرف السائل الحق ولو إقامة للحجة الرسالية عليه إن كان من أهل الأهواء الذين يعلمون الحق ويعرضون عن اتباعه لكبر أو شهوة رياسة.

ومن شهد هذه الشهادة فهو ممتثل لا محالة لأخبار الرسالة تصديقا وأحكامها تأويلا، فـ: (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فيصدق بتحكيمه وتسليمه شهادته، فليست، كما تقدم، شهادة لسانية، أو قلبية وجدانية لا أثر لها في الخارج، بل هي شهادة علمية باطنة، عملية ظاهرة، يظهر أثرها في كل سكنة وحركة، في كل تصور وحكم، في كل إرادة تعتمل في القلب، ولفظة تجري على اللسان، وفعلة تظهر على الأركان، فذلك مفهوم الإيمان الذي جاء به الوحي فيقر في القلب ابتداء ثم يصدقه اللسان فالجوارح، فيشهد ظاهر المكلف لباطنه أن صدقت شهادتك بالوحدانية، وصدقت شهادتك بالأخبار الغيبية، وصدقت شهادتك بالنبوات، فـ: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

ومن الشهداء شهداء قد شهدوا بدمائهم، فهم أعظم الناس شهادة، فـ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)، ولعل ما نراه في زماننا من صور الثبات العجيب على الدين الحنيف من مستضعفين بل مستضعفات هن مظنة اللين وقلة الصبر وسرعة الجزع، لعل ما نراه منهن شهادة أخرى، بل هي من الشهادات العظمى بالوحدانية والرسالة، وهي مما يحمل كثيرا من ورثة الديانة على إعادة النظر في حالهم، ويحمل الرجال على إعادة النظر في أوصاف الرجولة والمروءة والشهامة فضلا عن أوصاف الديانة، فقد ذهبت في الأعصار المتأخرة جملة من الأخلاق لا يقل مصاب فقدها فداحة عن مصاب فقد كثير من أحكام الشريعة بالتغييب والتجهيل، فإن الأمم لا تصمد إلا بدين يتورع صاحبه عن مقارفة أسباب الشؤم والفساد من المعاصي والموبقات، وأخلاق تحجز صاحبها عن مقارفة الدنايا، وإن لم يكن ذا دين متين، فالأخلاق الطبعية قد تسد مسد الأخلاق الشرعية، فيمتنع الإنسان عن المعصية أنفة لا ديانة، فإذا غاب كلاهما فمن يسد مسدهما، فلا دين يعصم ولا خلق يحجز!.

والجنة حق والنار حق: فهما مخلوقتان فحق وجودهما، وهما قد أعدتا لأهلهما فدخولهما حق، فحق على الله، عز وجل، أوجبه على نفسه فلا يوجب عليه أحد من الخلق شيئا، حق عليه أن يدخل أهل الإيمان الجنة فضلا، وحق عليه أن يدخل أهل الكفران النار عدلا، وبينهما المخلطون من أصحاب التوحيد فإن شاء عفا: فضلا، وإن شاء عذب على رسم التأقيت لا التأبيد: عدلا، فحصل بالتباين في المصاير فرعا عما صدر في دار الابتلاء من التصورات والإرادات والأقوال والأعمال، حصل به ظهور آثار قدرة الرب، جل وعلا، على التنعيم والتعذيب، وحكمته في عدم التسوية بين سائر العبيد، فلكل في الآخرة قدره من النعمة أو النقمة فرعا عما قدم في الأولى.

أدخله الله الجنة على ما كان من العمل:

فذلك من جنس الوعد العام فلا يعارض نصوص الوعيد الخاص، فقد يشهد القلب واللسان والجوارح، ويقوم بالشاهد مانع يستوجب الوعيد، وإن لم يحكم بنفاذه، إن كان مما لا ينقض أصل الدين من كبائر ومعاص، صاحبها متوعد تحت المشيئة، فيكون ذلك من جنس ما تحمل عليه أحاديث الوعد من قبيل: "من قال: لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر يصيبه قبل ذلك ما أصابه"، فذلك عموم تخصه نصوص أخرى، فلا بد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فهي، كما يقول ابن خزيمة رحمه الله، ألفاظ عامة مرادها خاص بمن ثبت في حقه الشرط وانتفى المانع، فقام بالفرائض واجتنب المناهي، فدخول من قال لا إله إلا الله الجنة ليس دخولا واحدا بل تتفاوت أحوال الداخلين تقدما وتأخرا، ومنازلهم علوا ونزولا، تتفاوت بتفاوت قيامهم بالشروط واجتنابهم للموانع، بل منهم من يشهد في الدنيا بلسانه، ولا يدخل الجنة أبدا، فهو منافق يظهر خلاف ما يبطن، أو مرتد قد وقع في مانع أتى على أصل الديانة بالبطلان، فأحكام الآخرة تباين أحكام الدنيا، فقد يحكم على كافر بالكفر بالنظر إلى ظاهره فتسري أحكامه عليه وهو في حقيقته مؤمن يكتم إيمانه، فأحكامه عند الرب، جل وعلا، أحكام المؤمنين، بل لعله خير من كثير ممن يظهر الإيمان، ولو صادقا، وتلك صورة تقع كثيرا في أعصار الضعف والانحسار التي طالت أخيرا بلاد المسلمين فيخشى المؤمن فيها من إظهار الإيمان!، فكثير من كفار الظاهر مؤمنون إيمان الباطن الذي يتحرق شوقا إلى إظهار الإيمان، وليس ثم نصير، بل قد انقلب النصير ظهيرا للكافرين!.

والشاهد أن دخوله الجنة بهذه الشهادة لا يلزم منه وجوب ذلك بالنطق المجرد، فهو في نفسه، لا ينفك، إن كان صادقا، عن عقد إيماني سابق، وفعل بالجوارح لاحق، فالشهادة، كما تقدم، ثلاثية الأركان، وهو في نفسه يجري مجرى نصوص الوعد العام فنصوص الوعيد الخاصة تقضي عليه سواء أكانت مما يستحق صاحبها الخلود المؤبد في النار كمن شهد بلسانه ووقع في ناقض قلبي أو قولي أو فعلي للإيمان، أو مما يستحق صاحبها العذاب المؤقت، فيحتمل قوله: أدخله الله الجنة: بعد استيفاء العذاب برسم التطهير بنار عصاة الموحدين، فيصير أهلا لدخول الجنة انتهاء وإن لم يكن أهلا لها ابتداء.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير