تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على العبادة فلأجلها خلق فهي الغاية العظمى التي خلقت وسائل الانتفاع بمتاع الحس الظاهر، وخلقت أجناسه وأنواعه، من أجلها، فكل ما يشغل الإنسان عن مراد الرب جل وعلا منه عبث ولو كان مشروعا في أصله إن قدم ما حقه التأخير فصار ما يحتمل الخلاف محل نزاع بل مفاصلة وصارت الثوابت محل أخذ ورد بل صار من يقول بها غريبا حتى بين أهل الديانة فيكال له الطعن من إخوانه فكيف بأعدائه وذلك من فساد النية بمكان فصاحبه يطلب حظ النفس، وفساد الإرادة الباطنة وفساد الأقوال والأعمال الظاهرة وكل ما يعضد السير إلى الرب جل وعلا ولو كان مباحا بل مشتهى بالطبع كالأكل والنكاح فهو مراد شرعا باعتبار النية وإن كان مرادا كونا باعتبار الخلق فلا يتعلق به ثواب أو عقاب في نفسه بل يثاب الإنسان به أو يعاقب بالنظر إلى مراده فالمباح لا ينفك عن غاية يأخذ حكمها فللوسائل أحكام المقاصد، فيقضى الوطر برسم الاستعفاف، ويحفظ النسل برسم: "تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبانية النصارى"، فما زاد على ذلك فهو من فضول المباح الذي يورث النفس ثقلا والبدن سقما، فكان من أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، كما تقدم، خلق تلك السآمة من معاقرة هذه الشهوات، لئلا يسقم البدن وتفسد الروح بالإفراط منها، فكل ما زاد عن الحاجة: فضول محسوس يؤذي صورة اللحم والدم، ويطفئ نور العقل والحكمة.

والشاهد أن من جملة الرحمات الظاهرة في الدنيا: رحمة النصر على أعداء الملة، وإن لم تكن سنة مطردة لئلا يخف الحق على من يدعيه فلو مكن له دوما ما أحس بعظم شأن الحق الذي يدعيه ولهان الحق على منتحليه فالشدائد تظهر من صور الغيرة والحمية العلمية والعملية ما يرضي رب البرية، جل وعلا، وهي غيرة قد ضعفت في زماننا حتى صار صاحبها غاليا في عين من جفا فكل مقصر يرى المتمم قد زاد عن الحد برسم الغلو، فظهور هذه الغيرة من أعظم آثار أسمائه وصفاته في الكون، فبصفات الجلال ينصر وبصفات الجمال يرحم وبصفة الحكمة يقع التدافع بين عسكر الرسالة وأعدائها، فـ: (لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فالدفع يولد حراكا نافعا برسم المجاهدة دفعا أو طلبا، فيستخرج الرب، جل وعلا، به من مراضيه الشرعية، ما يعد، عند النظر والتدبر، من أعظم صور عناية الرب، جل وعلا، بمن اصطفاه لهذا المنصب الشريف: منصب الذب عن الرسالة والانتصار للوحي، وعظم النصر من عظم الناصر، ولا نصر أعظم من نصر من عند الله، عز وجل، فـ: (مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ): فذلك، أيضا، من جنس الاستغراق المعنوي لعموم صور النصرة والتأييد، وذلك مجاز عند من يثبت وقوعه في الكتاب العزيز، فالأصل في استغراق "أل" أنه للمباني المحسوسة، فيكون مجازه استغراق المعاني المعقولة، ومن ينكر وقوع المجاز في التنزيل يجعل ذلك حقيقة فاستغراق المعاني على جهة الكمال حقيقة أو ادعاء برسم المبالغة مما اطرد في لسان العرب، فتقول: زيد الرجل، والرجال غيره كثير، فيكون ذلك من الادعاء بحصر أوصاف الرجولة فيه برسم المبالغة فذلك، كما تقدم، من معهود لسان العرب، فالنصر الكامل ولا بد أن تتخلله كبوة بل كبوات فذلك من ضرورة الابتلاء تمحيصا للقلوب، فـ: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)، ذلك النصر لا يكون إلا للمؤمنين ولا يكون إلا من عند ربهم، جل وعلا، فحسن القصر بأقوى أساليبه تقريرا لهذا المعنى على جهة الحقيقة، أو على جهة المبالغة فيكون من القصر الادعائي، بالنظر إلى وقوع صور من النصر من عند غير الله، عز وجل، فقد ينصر أهل الباطل بقوى محسوسة لضعف أهل الحق بتخليهم عنه، وهو معدن نصرتهم، ولكن لا ينصر الباطل على الحق أبدا، فحجة الثاني ظاهرة في كل زمان، فذلك من العموم المحفوظ برسم: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، فظهوره العلمي دائم، وظهوره العملي متفاوت، وإن كتبت له الغلبة في آخر الأمر، فتلك الكلمة الكونية السابقة، كما تقدم في آي الصافات، فيكون

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير