تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الادعاء بتقدير محذوف دل عليه السياق بداهة لقرينة صدور النصر من الرب، جل وعلا، تقديرا، فما النصر الكامل إلا من عند الله الناصر لجنده الهازم للأحزاب وحده ولو تعجل أهل الإيمان النصر فهو كائن لا محالة ولكن لا يكون ذلك إلا بضروب من الابتلاء تمحص بها النفوس وينفى بها خبث القلوب، فمعارك القلوب في الجبهات العلمية والعملية المفتوحة من المهد إلى اللحد، فيقاوم الباطن جند الشبهات العلمية والشهوات العملية، برسم العلم النافع والعمل الصالح، والاستعاذة من جند الشيطان، والاستغفار الوقائي العام مما يلقيه من الخطرات فلا تضر من استغفر فدفع قبل أن يرفع، فالدفع ابتداء أولى من الرفع انتهاء، وتحصين الثغور خير من اقتحامها ثم الإعداد والحرب لاستردادها!، تلك المعارك القلبية الباطنة لا بد أن يظهر أثرها على اللسان معارك بالحجج التي يلقيها الرب، جل وعلا، على لسان أهل الحق، فحججهم النقلية صحيحة وحججهم العقلية صريحة، وعلى الجوارح معارك بالأبدان والسلاح، فجهاد السيف والسنان في حقيقته تأويل ضروري لجهاد الحجة والبرهان، فلا بد أن يظهر أثر الباطن صلاحا أو فسادا على الظاهر أقوالا أو أعمالا.

فرحمته، جل وعلا، وسعت كل شيء بأوصافها فهي عظيمة المعنى، فليست كرحمات البشر، فلن تبلغ رحمتهم شيئا في رحمة الله، جل وعلا، وإن وقع الاشتراك بينهما في معنى الرحمة الجامع، فهو معنى كلي يعم أنواعا من الرحمات تتفاوت ماهياتها وأقدارها تبعا لتفاوت من قامت به، فليست رحمة الرب، جل وعلا، كرحمة العبد، فرحمة العبد قد تسع شيئا بل أشياء، ولكنها لا تسع كل شيء بداهة، فليس ذلك إلا مئنة من كمال وصف صاحبها فهو عليم بكل شيء فذلك لازم اتساع رحمته لكل شيء، إذ كيف يرحم من لا يعلم حال من يرحمه من ضعف اتصف به أو فاقة نزلت به ..... إلخ من العوارض الكونية التي لا يسلم منها مخلوق، وهي في حقيقتها، شاهد محسوس متصل الإسناد متواتر المعنى مدرك بالحس الظاهر فتنوع المصائب يعم كل المدارك، فهو شاهد على كمال غنى الرب، جل وعلا، الذاتي والوصفي، في مقابل كمال فقر العبد الذاتي والوصفي، أيضا، وهو شاهد على كمال قدرة الرب، جل وعلا، فيوقع النازلة بمن شاء كيف شاء، فتكون في حق عبد: منحة يستخرج الرب، جل وعلا، بها من قلبه معان مكنونة من العلم النافع والعمل الصالح ما كانت لتظهر لولا هذه النازلة، وذلك، أيضا، مئنة من كمال حكمته، جل وعلا، فقد صير المحنة الظاهرة منحة باطنة لمن رزق الثبات حال ورود المصاب، وليس ذلك إلا لمن ثبته الرب، جل وعلا، بالقول الثابت، فمن ثبت فليحمد الله، جل وعلا، فما كان له أن يثبت لولا أن ثبته الله، جل وعلا، وكل تلك الأمور من آثار أوصاف الجمال رحمة بالعبد ورأفة وإعانة خاصة على تحمل الابتلاء والعمل فيه بمقتضى الشريعة وحكمة باستخراج معان جليلة لولا الابتلاء، كما تقدم، ما ظهرت، فالشدائد كير القلوب النافي لخبثها الصاقل لمعدنها، فلولا الشدة ما علم العبد ضعفه فتكبر وتجبر: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى)، فإذا ظن في نفسه الغنى، مع أن غناه، كما تقدم، جزئي، معلق بأسباب مخلوقة مثله، خارجة عنه، فليس غنى ذاتيا كغنى الرب العلي، تبارك وتعالى، إذا ظن المسكين، كما يقول بعض المحققين وهو جدير بها الوصف المثير للشفقة فجهله بحاله يثير الشفقة عليه لما تقلد من مناصب ليس لها بأهل فمنصب الربوبية منصب جليل لا يقبل شركة ولا يقوى على تبعاته عبد محله ضعيف بمقتضى الجبلة فأوصاف الجلال لا تقوم إلا بذات قد بلغت الغاية من الكمال، ومن أخص أوصاف الربوبية: الغنى الذاتي الذي لا يفتقر إلى سبب خارج بل الأسباب في الإنشاء والجريان هي التي تفتقر إلى قدرته على خلقها وحكمته في إمرارها على الوجه الذي يحصل به صلاح الكون فتظهر آثار وحدانيته الذاتية والوصفية، وآثار كماله القدرية الكونية والشرعية فيه، فيجري الليل والنهار بقدر كوني نافذ ويبعث الرسل بقدر شرعي حاكم، وآثار جلاله قهرا للعباد، وآثار جماله رحمات بهم نازلة، فالكون بنفسه شاهد على وحدانية موجده في ذاته ووصفه، في سمعه وبصره، في جلاله وجماله فـ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فليس كمثله شيء في ذاته

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير