تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن المصيبة الكونية التي هي أثر مركب من جلال الرب، جل وعلا، بإنفاذ المقدور، وجماله باستنزال الرحمات بها في الدنيا طهارة للقلب والبدن وفي الآخرة نجاة من عذاب الأبد، قد تكون في حق عبد: منحة فيغلب فيها وصف الرحمة، فيصح على هذا الوجه جعلها أثرا من آثار جمال الرب، جل وعلا، عناية بمن نزلت به النازلة، فهي، إن ثبت وتجلد مظهرا الافتقار إلى الرب جل وعلا وحده، هي، على هذا النحو، من جملة الرحمات الإلهية التي قد وسعت كل شيء، برسم العموم فهو عموم محفوظ لا مخصص له بالنظر إلى مطلق الرحمة فلم يستثن أحد من الخلق منها فنال جميعهم منها آثار ظاهرة، بما فيهم إبليس، فخلقه رحمة له بالإيجاد وإنظاره له رحمة بالإمهال وتوفيته ما تقدم من صالح العمل قبل أن يحبطه بكفر الاستكبار عن طاعة أمر الرب، جل وعلا، الشرعي التكليفي بالسجود لآدم عليه السلام، وقد تكون في حق عبد آخر: محنة فيغلب فيها وصف الجلال، فقد تكون عقابا بالاستئصال العام أو الخاص، وقد تكون سببا في خسران الآخرة إن جزع العبد بما اقترفت يداه فلم يثبت ولم يسأل الرب، جل وعلا، الثبات، وعلى هذا الوجه الذي يدل على اختصاص الرحمة الشرعية بمن سدد فصبر، لا من خذل فجزع، على هذا الوجه يكون العموم مخصوصا بالعقل، أو هو من العموم الذي أريد به الخصوص وهو المحال القابلة لآثار الرحمات الشرعية فقط فيخرج بذلك محل إبليس وأتباعه من الكفار والمنافقين فليست محالهم بأهل لقبول آثار الرحمات الشرعية، وإن كانت كبقية الكائنات محلا قابلا لآثار الرحمات الكونية، وعلى الوجهين يبقى لـ: "كل" دلالتها العمومية فهو عموم حقيقي في القول الأول، مجازي في القول الثاني، على القول بوقوع المجاز في الكتاب العزيز، فإن من ينكر وقوعه في التنزيل يجعل ذلك حقيقة بملاحظة معنى الرحمة المراد حال إرادة عموم البشر فهي الرحمة الكونية، ومعناها المراد حال إرادة عموم المؤمنين فهي الرحمة الشرعية فيكون العموم محفوظا على كلا القولين، فيلزم لذلك تقدير محذوف دل عليه السياق اقتضاء، فيجوز حمل الرحمة على الرحمة الكونية فيؤول المعنى إلى: ورحمتي الكونية العامة قد عمت كل شيء مطلقا حتى الأعيان الخبيثة، ويجوز حمله على الرحمة الشرعية فيؤول المعنى إلى: ورحمتي الشرعية الخاصة قد عمت كل شيء يقبل آثارها من المحال الطيبة التي تقبل آثار أوصاف الجمال الربانية، ولا إشكال في حمل السياق على كلا المعنيين، فذلك شاهد لمن جوز الجمع بين الحقيقة والمجاز، فالعام المحفوظ في القول الأول الذي تحمل فيه الرحمة على الرحمة الكونية العامة: حقيقة، والعام المخصوص بالعقل أو الذي أريد به الخصوص في القول الثاني الذي تحمل فيه الرحمة على الرحمة الشرعية الخاصة: مجاز عند من يقول بوقوع المجاز في التنزيل، فلا تعارض بينهما بل دلالة اللفظ على كليهما تثري السياق بتوارد المعاني الصحيحة عليه.

وأما تخصيص الشيء بفرد أو نوع بعينه، كقول الغلاة في آل البيت، رضي الله عنهم، بأن الشيء في الآية هو: طائفتهم، فرحمته، جل وعلا، الواسعة قد حجرت فلا تسع إلا هم!، فهو نوع تحكم يشبه إلى حد كبير مسلك الباطنية في التصرف في ألفاظ التنزيل بما يوافق أهواءهم بلا مستند مرضي من شرع أو عقل أو لسان أو سياق، وذلك التصرف في النصوص تضييقا أو توسيعا بلا دليل معتبر: مسلك رئيس من مسالك أصحاب المقالات الباطلة. فهو من جنس قصر بعض النصارى عموم "أل" في "الكتاب" في قوله تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)، على الإنجيل دون ما سواه من التوراة والزبور ..... إلخ من الكتب المنزلة، فعموم "أل" الجنسية يستغرقها، ولا مخصص يخرج ما سوى الإنجيل إلا ما في عقل صاحب هذا الاستدلال من تحكم باعثه التعصب والهوى.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير