تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والثاني: أن الامتزاج هنا بين ذاتين لكل منهما خصائصه فيقع في الخارج تمام الانفصال بينهما حال الوفاة، كما تقدم، بخلاف حلول الكلمة في الناسوت أو الإله في الجسد فإن ذلك لا يتصور، وإن شئت الدقة لا يفرض فهو محال يفرض لا أكثر، فلا يتصور لتعذر انتقال المعنى من الموصوف به وحلوله في موصوف آخر على جهة الاتحاد مع بقاء نسبته إلى الموصوف الأول: نسبة صحيحة! فضلا عن تعذر تجسد المعقولات في المحسوسات في هذه الدار فأحكامها تباين أحكام دور أخرى يتجسد فيها العمل في هيئة محسوسة فيوزن ويرجح أو يطيش فضلا عن أن المتجسد هو وصف من ليس كوصفه شيء فلا يتصور تجسده في من له مثل في ناسوته البشري فتبطل معاني الأحدية والوحدانية الثابتة لرب البرية، جل وعلا، فضلا عما يحتمله ذلك من طروء وصف النقص والفناء على الناسوت المخلوق فيفنى ويفنى ما اتحد به من وصف اللاهوت، وذلك أيضا، أمر محال في جنب الرب المعبود، جل وعلا، فهو الأول والآخر فلا يفنى ولا يبيد، والشاهد أنه لا يتصور هذا الاتحاد الباطل نقلا وعقلا إلا مع فقد أحد المتمازجين لجملة من أوصافه فيقترب من الآخر، وكذلك الشأن في الثاني، فيقع بتجويز حلول الرب المعبود، جل وعلا، في العبد المخلوق، يقع بذلك لزوما:

الغلو في المخلوق باكتسابه جملة من أوصاف الخالق جل وعلا.

والجفاء في حق الخالق، جل وعلا، بتجويز اتصافه بأوصاف البشر التي لا تنفك، كما تقدم، عن وصف نقص جبلي.

فإذا ظن المسكين، كما تقدم، أنه غني بذاته، مع أنه يباشر صورا من الافتقار تشهد ببطلان تلك الدعوى الجائرة التي أطلقها فرعون صراحة فقال في منتهى الوقاحة: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، فما قال ذلك إلا بعد أن اعتقد في كبر وجهل منقطعي النظير، وهما متلازمان، فالمتكبر جاهل بقدر نفسه الدنية جاهل بأوصاف رب البرية جل وعلا الذي يحسن في حقه وحده الاتصاف بأوصاف الجلال من كبرياء وعظمة وقهر، فما قال ذلك إلا بعد أن اعتقد لنفسه كمالا في الذات والوصف فنعت نفسه بنعوت قدرة وعلم وحكمة مطلقة فـ: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، فاستخف من قومه من استخف ممن صدق عليهم إبليس ظنه، فجعلوه مع نقص وصفه وفساد عقله الذي غفل أو تغافل عن نقصه وفقره الذاتي، جعلوه قائد المسيرة!، ومجدد الأمة ورسولها، بل إلهها المعبود صراحة، ومن الأمم من عبدت طواغيتها بلسان الحال فـ: (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)، فذلك شرك المحبة، ومنهم من عبد طواغيت جور تعدت على مقام التشريع الإلهي فهو من أخص أوصاف الربوبية، فحكمتها في شأنها الخاص والعام تحكيم فرعون في شأن قومه حتى أوردهم المهالك، وتلك سنة كونية مطردة في كل أمة تسير برسم العمى المطلق خلف كل فرعون في الماضي أو الحاضر أو المستقبل!، فالفراعين يورث بعضهم بعضا عروش الملك برسم الجور الذي لا قيام لدولة النبوة أو الخلافة، دولة العدل الشرعي، دولة الوحي السماوي، لا قيام لها في ظله، فعدل النبوات وظلم الملوك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فلا تتصور أمة بلا ملك أو إمارة، فتلك من نوازع البشر الفطرية لئلا يفسد حال الجماعة البشرية، فإذا ظن المسكين في نفسه نقيض وصفه جاء حكمه على الأمور من جنس حكم فرعون الذي اعتقد في نفسه كمالا وهو في غاية النقصان، فظن فرعا عن ذلك التصور الفاسد أن حكمه هو الراشد فظهر بتسببه في إهلاك نفسه وقومه لما تعرض لأوصاف جلال الرب، جل وعلا، ظهر من ذلك عظم جهله وسفهه وقصور نظره وحكمه، وهل أفسد عقلا ممن رام منازعة الرب، جل وعلا، وصفا من أوصاف كماله، فادعى لنفسه من أجناس الكمال ما لا يتصور قيامه إلا بالذات الإلهية القدسية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير