تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الإفهام من أي خطاب، فقد نزل برسم: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، ومن تيسيره بداهة أن يعلم معناه كل أحد فقد نزل برسم البيان إقامة للحجة الرسالية لا الإجمال فذلك مما يبطل الحجة ويقيم العذر لمن تولى وكفر، فما علم مراد المتكلم من تأويلات أحدثها أصحاب المقالات صرفت فيها الألفاظ إلى وجوه بعيدة متكلفة، بل ربما باطلة لا يشهد لها نقل أو عقل أو لسان، فكيف تقوم حجة بخطاب مضطرب باضطراب عقول أهل التأويل الذين أغروا سفهاء الفلاسفة والمعطلة فتسلطوا على الأخبار والأحكام بسيف التأويل حتى أبطلوا الشريعة جملة وتفصيلا فهي رموز خفية لمعان باطنية لا يدركها إلا حذاق الفلاسفة، فذلك كهنوت من جنس كهنوت النصارى، بل لعل النصارى أخذوه عن الفلاسفة، فدينهم بعد التبديل قد نقل من فلسفات الأولين ما ألجأ أصحاب الرياسة فيهم إلى تأويل ما بقي بأيديهم من آثار رسالة المسيح عليه السلام لتوافق تلك المقالات الفلسفية الغامضة فصار الدين كهنوتا عسير الفهم، صعب المنال، فلا يناله إلا أذكياء البشر ممن أفنوا الأعمار في دراسة مقررات الفلاسفة، مع ما فيها من عوار ظاهر ومناقضة صريحة لأحكام العقل الذي ينتحلون تعظيمه وهم أول من ينقض أحكامه بتأويلاتهم التي تعارض المعلوم الديني والعقلي واللساني الضروري، فهل تقوم حجة على البشر بمفالات فلسفية باطلة وأسرار كهنوتية غامضة لا حقيقة لها في نفس الأمر، فلا يتصورها العقل ليجوز وقوعها بل غايته أن يفرضها ولو برسم القهر للعقول بمناقضة أحكامها الصريحة، ثم البحث عن أي تأويل ولو متكلف باطل لازدراد تلك المقالة، فلا المؤول مصدق ولا التابع متصور لما يلقى إليه من الأباطيل تمام التصور، وإنما غايته أن يتابع الرأس برسم التقليد الأعمى، وتلك حال الأتباع في أي ملة أو نحلة باطلة، فالجهل فيهم أصل، وتجهيل الرءوس لهم غرض رئيس، فلو أعملوا عقولهم المعطلة لظهر لهم فساد المقالة الحادثة أو المبدلة، وتلك حال أحرارهم من أصحاب العقول الصريحة التي تأبى الخضوع لطغيان الكهنوت فإذا بحثت برسم الإخلاص والاسترشاد فإنها ستصل إلى حقيقة التوحيد الناصعة: جوهر الرسالات النازلة، فهي مقالة الأنبياء عليهم السلام جميعا فـ: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

والشاهد أن الجعل هنا مئنة من كمال قدرة الرب، جل وعلا، فيحمل على الجعل الكوني النافذ، وكمال حكمته فيحمل على الجعل الشرعي الحاكم، ويشهد لهذا الوجه ما جاء عقيب الفعل من قوله تعالى: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، فهي من جملة الشعائر التعبدية برسم الإيجاب أو الندب، والشعائر من أحكام الألوهية التي تتعلق بالجعل الشرعي، ولا مانع من حمل الجعل في هذا السياق على كلا الوجهين، لعدم التعارض بينهما، بل هما، كما تقدم، متلازمان متكاملان، فمن له كمال الانفراد بالجعل الكوني له كمال الإفراد بالجعل الشرعي، فهو الرب الخالق والإله الشارع، فمن له كمال الربوبية فله ضرورة كمال الألوهية، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين أحكام الربوبية النافذة، وأحكام الألوهية الشارعة.

فقد يصح هذا الوجه كشاهد لمن جوز الجمع بين معاني المشترك اللفظي، فيدل بلفظه الواحدة على معنييه الاثنين، لو قيل بأن التكوين والتشريع متباينان من كل وجه، فحمل الجعل على كليهما على وجه لا يقع به التعارض مئنة من جواز حمل اللفظ الواحد على معنيين متباينين في نفس السياق، وقد يقال بأن التباين ليس واقعا من كل وجه، فالتكوين والتشريع كلاهما من الرب، جل وعلا، فهما من آثار صفات جلاله وجماله: كلمات منها الكوني النافذ ومنها الشرعي الحاكم، فحصل الاشتراك بينهما في أصل المعنى وفي جهة الصدور فكل من الرب، جل وعلا، قد بدا، على وجه يليق بجلاله فلا يعلم كنهه إلا هو، فهو فرع عن ذاته القدسية التي يدرك العقل معنى قدسيتها ولا يصل إلى حقيقة كينونتها، فلا يعلم كيف هو، جل وعلا، في ذاته أو صفاته إلا هو فذلك من جملة ما استأثر به في علم الغيب عنده بل ذلك أشرف وأعظم الغيوب فابتلي العباد بإثبات المعاني التي تدركها العقول والتسليم والتفويض في الحقائق التي لا تطيق

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير