تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ: فتلك زكوات وصدقات الزروع التي أجملت في التنزيل وبينت في السنة، فذلك، عند النظر والتدبر، من حفظ التنزيل برسم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فحفظ لفظه المتواتر، وحفظ معناه المنقول بالإسناد فتلك خصيصة من خصائص أهل الإسلام عموما وأهل السنة خصوصا، فالزكاة قد أجمل ذكرها في التنزيل فلم يأت إلا الأمر بها فذلك من جنس الأمر بالصلاة فهو، أيضا، من المجمل الذي بينته السنة، فذلك من جملة وظائفها ففيها بيان مجملات التنزيل، وفيها تقييد مطلقاته، وتخصيص عموماته، بل فيها الزيادة عليه فهي وحي وإن لم يشرع التعبد بتلاوة ألفاظها، وإن كان حفظها من أعظم القرب، لا سيما في الأعصار والأمصار التي يجتهد أهل الباطل فيها في حرب السنة لطمس معالم الملة فالسنة شارحة لمجملات كثيرة في التنزيل فإذا بطل الاستدلال بها بوقوع التشكيك في مصادرها الأصلية صار التنزيل معطلا عن البيان الكامل، ففيه بيان أصول الديانة دون توسع في الفروع إلا في مواضع، فبيان الفروع وظيفة السنة، ولا يكتمل الدين إلا بفروع عملية هي أثر ما يقوم بالنفس من الأصول العلمية التي عني التنزيل ببيانها وتأصيلها في النفوس، فاستوفى السياق أجناس الأموال: الباطنة والظاهرة، فالذهب والفضة وهما من الكسب بإرث أو تجارة ..... إلخ من وجوه الكسب المشروع من الأموال الباطنة، والزرع والثمر من الأموال الظاهرة وفي كل: (حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، فقد أجمل في هذا الموضع، أيضا، فلا غنى له عن بيان السنة لمقادير الأنصبة والمقادير وأجناس الأموال الزكوية التي أطنبت السنة في ذكرها فرفعت إجمال التنزيل لحكمها، فالتنزيل مظنة تقرير الأصول بذكر المجملات، والسنة مظنة التفصيل للفروع العلمية والعملية فلا غنى لأحدهما عن الآخر فكل من وحي ربنا النازل برسم الحفظ، كما تقدم، فحفظ السنة من حفظ التنزيل كما أثر ذلك عن جمع من المحققين.

وجاء فعل الإخراج مضافا إلى ضمير الفاعلين فذلك مما يلائم سياق الإيجاب فلستم أنتم من أخرجه لتبخلوا بحقه، بل قد أخرجه الرب، جل وعلا، فهو من آثار صفاته الفاعلة، وذلك وجه لطيف يخرج به الجمع، فهو جمع يدل على جملة من صفات الكمال التي يظهر أثرها في الكون بكلمات كونية نافذة بها تخرج الثمار عناية بالأبدان، وكلمات شرعية حاكمة بها تنزل الشرائع ابتلاء للقلوب بإخراج حقوق تلك الثمار والزروع، فمن أخرج بقدره الكوني هو الذي أوجب الزكاة بقدره الشرعي، فذلك من جنس التلازم الوثيق بين فعل الربوبية النافذ وحكم الألوهية اللازم، فضلا عن دلالة الإضافة إلى ضمير المجموع على المنة الربانية السابغة بإخراج الثمار والزروع النابتة، فأنفقوا فذلك من مقتضيات الألوهية مما أخرجنا لكم فذلك من آثار أفعال الربوبية.

وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ: فذلك من المقابلة أو طباق الإيجاب بين: الطيب والخبيث، فجاء الأمر بالإنفاق من الأول وورد النهي عن تقصد الإنفاق من الثاني، فالتيمم يدل بمادته المعجمية على قصد الشيء بالوجه، فمن أعرض عن تيمم شيء أعرض عنه بقلبه ابتداء ثم بوجهه فلا يشيح المرء بوجهه إلا عما يكرهه بقلبه، على ما اطرد مرارا، من التلازم الوثيق بين الباطن بتصوراته والظاهر بحركاته، فصار ذلك من قبيل الكناية التي لا تمنع إرادة المعنى الأصلي، فمن تيمم الخبيث لينفق منه فإنه سيتوجه إليه ببدنه فذلك المعنى الأصلي، ولا يكون ذلك إلا عن توجه قلبي، فذلك المعنى الكنائي، وهو مئنة من شح نفسه ولؤم طبعه، فلو أن الإنسان قدم لضيفه طعاما رديئا لأوغر صدره، كما يقول بعض المحققين، فكيف بمن يقدم للرب، جل وعلا، الخبيث الذي تعافه نفسه، فـ: لَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ: فتلك كناية أخرى فإغماض العين مظنة بغض الشيء والنفور منه فكيف يكون ذلك مما يتقرب به إلى الغني برسم الإطلاق؟!، وقد جعله الراغب، رحمه الله، من قبيل الاستعارة للمعنى المحسوس بغلق الجفن فهو مئنة من التغافل والتساهل، إلى المعنى المعقول، فلا ينفك إخراج الخبيث عن تساهل وتغافل كما نقل ذلك عنه الألوسي، رحمه الله في تفسيره.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ: فلا يفتقر إلى صدقاتكم بل أنتم الفقراء إلى رزقه الكوني ورزقه الشرعي فالتكليفات الشرعية كما تقدم من جملة المنح الربانية بل هي أشرف أجناسها، فرزق الأديان أعظم بداهة من رزق الأبدان، ونعمة النبوة الدينية أعظم بداهة من سائر النعم الدنيوية.

حَمِيدٌ: فلا يقبل إلا طيبا، فمادة الحمد تستجمع صفات الجمال التي يقبح معها إهداء الرديء إلى من اتصف بها.

وجاء التذييل بالوصفين: الغنى والحمد، ملائما لما تقدم من الأمر بالنفقة فذلك من قبيل الاحتراز من مقالة أخبث يهود: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، فالأمر بالإنفاق ليس مئنة من افتقار الرب، جل وعلا، إلى عباده، بل هم الفقراء إليه، فـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، فجاء القصر بتعريف الجزأين في كلا الشطرين، وحصل بهما من المقابلة المعنوية بين وصف العباد ووصف الرب، جل وعلا، ما يزيد المعنى بيانا وتقريرا، فما أمرهم إلا بما فيه صلاحهم العاجل بوقوع التكافل بين الأفراد والجماعات، وصلاحهم الآجل بموافقة مراد الرب الشارع جل وعلا فهو الذريعة إلى نيل رضاه في دار القرار، فله الغنى وصف ذات وفعل فهو الغني في ذاته المغني لغيره، وله الحمد بأوصاف الجمال فذلك مما يحسن إيراده تذييلا على ما تقدم من تقرير المنة الربانية السابغة بأجناس الأموال الظاهرة والباطنة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير