تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

علم ما جبلوا عليه من الشح وحب الإمساك فابتلاهم ببذل المحبوب، فـ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فتلك من جملة المحن التي تبلى بها النفوس لينظر أصدقت في دعوى المحبة أم كذبت، والإنفاق، أيضا، مما تنزه به النفوس عن رذيلة الشح والبخل، فالأمر به، عند التدبر والنظر، من أعظم صور العناية الربانية فقد علم الرب، جل وعلا، بعلمه التقديري الأول، ما يهذب النفوس فأنزل على المصطفين برسم الرسالة جملة من الأخبار والأحكام التي تستقيم بها التصورات والإرادات والأقوال والأفعال، وأنزل من الرزق الكوني ما تصلح به الأبدان، فكلمات الرب، جل وعلا، قد استوعبت المعقول والمحسوس، ففيها صلاح الدين الذي تغتذي به القلوب، وفيها صلاح الدنيا الذي تغتذي به الأبدان، فقدر الرب، جل وعلا، خير كله، فبه ينتظم أمر الكون، ويستقيم أمر الشرع فـ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، فالرسالة تعدل مسار البشر إن خرجوا عن سنة الكون، فالكون كله بأرضه وسمائه ومخلوقاته ناطق بلسان الحال والمقال بالتوحيد إثباتا والتسبيح تنزيها: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، فإذا شذ الإنسان بوقوعه في الشرك جاءت الرسالة لتعدل مساره فـ: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، فاعبدوه في عقائدكم وشرائعكم، في أموالكم وأبدانكم، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك مما يقض مضاجع العلمانيين، من لدن قوم شعيب عليه السلام فلسان مقالهم: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ)، فليست الصلاة شعيرة مجردة، وإن كان ذلك مطلوبا دينيا واجبا، بل هي شعيرة تؤدى خمس مرات ويظل أثرها برسم الديمومة فتستغرق عمر المكلف برسم: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولا يخشى العلمانيون قديما وحديثا إلا هذا المعنى العام الذي يستغرق الحياة فتصير حياة شرعية رفيعة لا حياة حيوانية وضيعة من جنس الحيوات في الأعصار والأمصار التي تحجب فيها شمس النبوات.

والشاهد أن الإنفاق وإن كان تكليفا من وجه إلا أنه من صور العناية الشرعية من وجه آخر، فمعنى الإلزام فيه لا يمنع وقوع الانتفاع بأثره، فيفيد القلب مادة حياة بشكر نعمة المال فتلك، أيضا، من وظائف الزكاة، كما أشار إلى ذلك في مختصر "منهاج القاصدين" بقوله:

"اعلم: أن على مريد الآخرة في زكاته وظائف:

الأولى: أن يفهم المراد من الزكاة، وهو ثلاثة أشياء: ابتلاء مدعى محبة الله تعالى بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل المهلك، وشكر نعمة المال".

"مختصر منهاج القاصدين"، ص31.

ويفيد أديانا وأبدانا: صلاحا بسد خلة البدن ليتفرغ القلب إلى الهم الأعظم فتلك من أعظم صور الحكمة في إيجاب الزكوات والندب إلى الصدقات.

وإلى هذا المعنى اللطيف أشار في مختصر "منهاج القاصدين" في معرض بيان وظائف آخذ الصدقة بقوله:

" [الوظيفة الأولى]: أن يفهم أن الله تعالى إنما أوجب صرف الزكاة إليه ليكفيه ما أهمه، ويجعل همومه هماً واحداً في طلب رضى الله عز وجل". اهـ

"مختصر منهاج القاصدين"، ص33.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير