تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خلقه التقديري في عالم الغيب، فما خلق ذلك برسم البطلان فذلك مما يتنزه عنه آحاد الحكماء بداهة أولى فهي مقدمة القياس الأولوي الصحيح في حق الرب الجليل تبارك وتعالى، فأحكم الحاكمين أحق بالتنزيه بداهة ثانية هي نتيجة القياس، فكل نقص تنزه عنه المخلوق: فالخالق، جل وعلا، أولى بالتنزيه عنه، لاتصافه بكمال ضده فذلك مقتضى المثل الأعلى الثابت له، جل وعلا، على جهة الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فدلالة اللام في نفسها أمارة على الاختصاص، فزيد المعنى بتقديم الجار والمجرور، فالاختصاص ثابت من وجهين وذلك آكد في تقرير المعنى بتوالي المؤكدات إما بدلالة اللفظ فاللام في نفسها مئنة من الاختصاص كما أشار إلى ذلك من صنف في معاني الحروف كصاحب "المغني" رحمه الله، أو بدلالة التركيب فتغيير نظمه لا يكون إلا لنكتة معنوية فلا يخلو تغيير لترتيب الألفاظ من تغيير في معانيها بإشارة بلاغية لطيفة تستمد من لسان العرب، فمعهود كلامهم يحسم النزاع في موارد الاختلاف في معرفة مراد المتكلم.

ويقال من وجه آخر بأن كل كمال ثبت للمخلوق، برسم الكمال في أصله، وإن كان تحققه في المخلوق برسم النقصان، فلا ينفك أي وصف محمود في الإنسان عن المخلوق عن وجه نقص بل وجوه!، ليظهر بذلك من تفاوت الصفات والهيئات والملكات ما يدل على تنوع آثار القدرة الربانية والحكمة الإلهية وذلك مئنة من كمال الربوبية فالخلق في أصله واحد ولكن تعدد صوره في الخارج على وجه يقع به التدافع بين الأضداد هو مادة صلاح الأرض، فـ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وهو دليل محسوس يولد في النفس علما ضروريا بأن للكون ربا فاعلا غير معطل عن وصف الكمال فآثار أفعاله في الكون مئنة من قدرة نافذة ومشيئة عامة غالبة، فـ: (اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، فغالب برسم التكوين فهو مئنة من وصف الجلال بالقهر العام للكائنات وغالب برسم التشريع العام فهو مئنة من وصف الجمال، فبه تظهر آثار الحكمة البالغة في تقدير الصور والهيئات الظاهرة، وتقدير العلوم والإرادات الباطنة، فالقدر قد عم ما خفي من العلوم والعقود وما ظهر من الأعمال المحسوسة التي بها يكون تأويل ما في القلب من حركات معقولة برسم الفكر الذي تتحرك به النفوس في المعقولات استدلالا بما وقع لها من أدلة الخبر وأصدق الخبر: خبر النبوات فهو معدن العصمة لا سيما في الغيبيات التي لا تدركها العقول بمداركها المحدودة فهي آلة تكليف بإيمان بغيب مطلق، حقائقه مغيبة فلا تدرك العقول أو الحواس كنهه، فلا تدرك إلا معانيه فهي مما يوجبه العقل أو يجيزه، فوظيفة العقل العمل في الأخبار تصورا لمعانيها فإعمال العقل فيها من أجل القرب وتعطيله برسم التفويض للمعاني الكلية التي يدركها بداهة فهي أصول الكلام فلا يصدر الكلام إلا عن مسلمات ضرورية تتواطأ عليها العقول فهي من جملة الضرورات الذهنية، فتعطيل تلك الضرورات إهدار لقوى العقل بحجبه عن النظر المسدد في أدلة الشرع المنزل، فتصير الأخبار ألفاظا لا تدل على معانيها التي تواطأت العرب عليها فإبطال دلالات الألفاظ المعجمية وإهمال دلالات التراكيب السياقية التي ترد فيها الألفاظ فلا يعرف مراد المتكلم إلا بالنظر فيها، فهي أمارات ترجيح يرتفع بها الإجمال ويحصل بها البيان الذي يزول به كل إشكال، ووظيفته مع ذلك: التفتيش عن مصادرها فلا يقبل خبر في أمر الدنيا إلا من مصدر يحصل الرضا بخبره فهو من أهل الشأن ولو آحادا من أصحاب الصناعات، فكذلك الخبر الديني بل هو أولى بالاحتياط فلا يقبل إلا من مصدر تلق صحيح فينظر في إسناده ومتنه، ليعلم من حال رجاله إن كان آحادا ما يقع به الرضا فتطمئن النفوس بنقله، وما كان من متواتر فقد كفي العقل مؤنة التفتيش في حال نقلته فالتواتر يحصل به علم ضروري ترتفع به الحاجة إلى النظر في رجال أسانيده فهي من الكثرة بمكان فاحتمال التواطؤ على الكذب فيها محال، ومن رحمة الرب، جل وعلا، أن أقام الحجة الرسالية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير