تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأضيفت الآيات إلى الرب، جل وعلا، فذلك مئنة من العموم القياسي، كما قرر أهل الأصول، فتعم الآيات الكونية والآيات الشرعية فضلا عن دلالة الإضافة إلى أعظم موجود، تبارك وتعالى، على عظم الآيات، فتعددت وجوه المعاني بتعدد وجوه الإضافة، وذلك، أيضا، مئنة من سعة لسان العرب ودقة ألفاظه فاللفظ يدل بمفرده على معنى مطلق، ويدل بسياقه على معنى مقيد، فدلالة التركيب تضيف إلى المعنى المطلق ما لا يدل عليه اللفظ المفرد، فالألفاظ إنما تفيد بإيرادها في تراكيب لا في نطقها مفاريد بلا سياق مذكور أو مقدر ترد فيه لتدل بقرينته على مراد المتكلم.

وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا: فذلك من الإطناب في بيان مساويهم فيحسن ذلك في معرض التذييل بعلة الحكم الذي صدرت به الآية، وإيراد الخبر مورد الشرط آكد في تقرير المعنى في الذهن فإن يروا كل آية فجاء العموم من وجهين، فـ: "كل" نص فيه وورود النكرة في سياق الشرط نص فيه، أيضا، وذلك جار مجرى ما تقدم من تقرير المعنى فهو مما يظهر به غلظ كفرهم فلا يؤمنوا بكل آية مسطورة يرونها بعين البصر، أو آية كونية يجد المكلف آثارها بعين البصيرة، فهي مئنة ضرورية من انفراد الرب، جل وعلا، بمنصب الربوبية: تكوينا وتشريعا، بكلمات هي آثار كماله ذاته ووصفه، فالكلمات، عند التأمل، هي أثر وصف الرب، جل وعلا، فكل كمال ثبت له يظهر أثره في تقديره الكوني بكلمات التكوين النافذة، وتقديره الشرعي بكلمات التشريع الحاكمة.

وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا: فتلك من المقابلة التي تدل على فساد التصور العلمي، فما تقدم، وقد أشير إليه بإشارة البعيد مئنة من التحقير: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ:

ففساد العلم مئنة من فساد العمل، فما توليهم وإعراضهم إلا فرع عن تكذيبهم وغفلتهم، فمنهم من كفر جحودا وتكذيبا، ومنهم من أعرض عن طلب أسباب الحق الذي لا يتلقى في الشرعيات إلا من مشكاة النبوات، فتلهى بطلب أسباب الباطل، فذلك مما جبلت عليه النفوس الحساسة المتحركة ضرورة، فإن لم تغتذي بغذاء الحق من أسباب الوحي الرحماني فينشغل القلب بتحصيل أسبابه فهو من نبات البلد الطيب، تغذت بغذاء الباطل من أسباب الوحي الشيطاني فينشغل القلب بتحصيله فهو من نبات البلد الذي خبث فلا يخرج إلا نكدا، فذلك مثل بديع ضربه التنزيل في قوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)، كما أشار إلى ذلك ابن القيم، رحمه الله، بقوله:

"فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه". اهـ

فبين مكذب جاحد، ومستكبر، وغافل قد تلهى بالخسيس عن النفيس لضعف عقله وقلة علمه فهو مغرور بالدنيا، فقد غرته، كما يقول الغزالي، رحمه الله، في "الإحياء": "الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور أما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا النقد خير من النسيئة والدنيا نقد والآخرة نسيئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها وقالوا اليقين خير من الشك ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا نترك اليقين بالشك.

وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) ". اهـ

فما فسد حال في الخارج إلا فرعا على فساد باطن سبقه في التصور والوقوع، ولا يصلح فساد التصورات والإرادات في الباطن، وفساد الأقوال والأفعال في الخارج لا يصلحها إلا الوحي الذي بعث به الرسل عليهم السلام حسما لمادة النزاع، فـ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير