تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن الطغيان الكهنوتي لمكان الدين في النفوس أعظم من الطغيان السياسي، فليس لملوك الجور ما لرءوس المقالات الباطلة من النفوذ، فلا يتجاوز نفوذ ساسة الدنيا حد القهر الأبدان بسيف الإرهاب والتنكيل فغايتهم التهديد بإفساد الدنيا وإزهاق الروح في هذه الدار، وأما رءوس المقالات الحادثة فيلوحون بسيف الإرهاب الفكري فتهديدهم بالحرمان من دخول الملكوت الأبدي أعظم من تهديد ساسة الدنيا بالحرمان من حياة مؤقتة ستزول حتما ولو اجتمع لأصحابها من أسباب الدعة والراحة ما اجتمع، بل قد يجتمع لهم السيفان إذا وقع التآمر المقيت بين ساسة الجور وأئمة الضلالة تحصيلا لمكاسب دنية، فذلك تآمر من جنس ما وقع في مجمع نيقية الذي استنصرت فيه القلة الضالة بسيف قسطنطين، ثم تلاه تآمر الكنيسة مع العرش في أوروبا المظلمة المقفرة حتى الآن من آثار الرسالة الصحيحة إلا ما كان من نور أشرق عليها من أرض النبوات فنفذ إليها مع غلظ حجب الظلمات بكتابه الهادي وسيفه الناصر، ففي الأندلس اجتمع الكتاب والسيف، واليوم تبدد النبوة ظلمات أوروبا شيئا فشيئا بالكتاب الهادي بعد أن أغمد السيف الناصر إلى حين، فلن يقوم الدين كما قام أولا إلا بما أقامه به الأولون من حجج باهرة وسيوف عدل قاطعة لجذور الطغيان الديني والدنيوي الراسخة في الأعصار والأمصار التي اندرست فيها آثار النبوات، فتلاه تآمر الكنيسة مع العرش حتى سقط كلاهما بثورة عارمة قضت على الكهنوت الديني وأقرت كهنوتا آخر صارت الدولة فيه لعقول البشر بمنأى عن نور الوحي الصحيح المحفوظ لا وحي الكنيسة المبدل، فصار منصب التشريع لأهواء وأذواق مضطربة تتفاوت أحكامها بتفاوت عقول وعلوم أصحابها، فتعددت الشرائع الحادثة في مقابل الشريعة الباقية، فذلك من صور التوحيد الرباني في مقابل التشريك البشري، فيجتمع في هذه الصورة: الشرك في الربوبية فمنصب التشريع من أخص وظائفها، والشرك في الألوهية بتوجه القلب إلى غير الوحي فيرضى حكمه ويمتثل أمره ونهيه وذلك عين التأله للمعبود فـ: (لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فرضاهم بحكم الله، عز وجل، عين التأله الصحيح للمعبود بحق، ورضا غيرهم بحكم غيره عين التأله الفاسد لسائر المعبودات الباطلة، فـ: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، والنفوس تتفاوت أقدارها ومنازلها بتفاوت إراداتها في القلب وتفاوت أغراضها في الخارج.

ومادة الصرف مادة مجملة لا يظهر المراد منها إلا بالتقييد بالحرف فمنه الصرف عن الشيء، كما في هذه الآية، ومنه الصرف إلى الشي، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ)، ومنه، أيضا، صرف كوني إلى الحق كما وقع للجن فذلك من فضل الرب، جل وعلا، أو إلى الباطل، كما وقع لأولئك المتكبرين، فذلك من عدل الرب، جل وعلا، ومنه صرف للمكلف العاقل، كما في الآيات السابقة، ومنه صرف لما لا يعقل فليس أهلا للتكليف الشرعي، فـ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)، ومنه التصريف الكوني، كما تقدم، ومنه التصريف الشرعي، فـ: (لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، فتنوع موارد المادة الواحدة بتعدد وجوه التقييد اللفظي بالحرف، أو المعنوي بالسياق، ذلك التنوع مئنة ظاهرة من بلاغة لسان العرب عموما، وكلام التنزيل خصوصا، فـ: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير