تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أنه لا كمال للعبد إلا بمباشرة أسباب الرغبة في آثار صفات الجمال، ومباشرة أسباب الرهبة من آثار صفات جلال الرب، جل وعلا، فذلك حد الخشية التي تحسن حال الصحة والغفلة، فلكل محله الذي يلائمه، وداؤه الذي يعالجه، فلا يحسن استعمال الدواء في غير محله فإنه يفسد المزاج ويزيد الألم فيوقع دواء الخشية الخائف في القنوط، بل قد يخرجه حد عن الاعتدال إلى صور من الخوف المفرط فهو، كما يقول في "مختصر منهاج القاصدين": "كالذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، فهو أيضاً مذموم، لأنه يمنع من العمل، وقد يخرج إلى المرض والوله والموت، وليس ذلك محموداً، وكل ما يراد لأمر، فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه، وما يقصر عنه أو يجاوزه، فهو مذموم". اهـ

"مختصر منهاج القاصدين"، ص255.

ويوقع دواء الرجاء الغافل في الأمن، فلا يحسن في حقه، ومن هنا وقعت المفاضلة بين الخشية والرجاء، وحسن الجمع بينهما، وإن كانت الخشية، كما تقدم، أليق بأزمنة السلامة، فهي أول تحصل به التخلية للمحل من دنس المعاصي، والرجاء الثاني فبه تحصل التحلية فالرجاء لا يكون إلا بمباشرة الطاعات، وإلا كان غرورا وأماني باطلة، فبالطاعات تستجلب الرحمات وتستنزل البركات وكلها من آثار صفات الجمال التي يرجو العبد نوالها، فبها يكون الترغيب في الخير كما يكون الترهيب من الشر بمطالعة آثار صفات الجلال التي يرجو العبد فواتها.

فجاء الاستفهام الإنكاري الإبطالي لنفي التماثل بين طرف مذكور وآخر مقدر دل عليه السياق، فتقدير الكلام:

أمن هو قانت خير أم الكافر، فحذف الخبر: "خير"، و: "أم"، ومعادل الهمزة: "الكافر"، كما ذكر ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "المغني"، في صدر كتابه في صدر كلامه على الهمزة فذلك ثاني استعمال ذكره لها فتستعمل في الاستفهام حقيقة أو مجازا فقد جعل الاستفهام من الرب، جل وعلا، جار مجرى المجاز لا الحقيقة فهو العليم بكل شيء فلا يتصور منه استفهام عن حقيقة الشيء تصورا أو تصديقا، وقد يقال بأنه لا مجاز هنا فالاستفهام قد استعمل على وجه معهود في لسان العرب لغرض بلاغي هو الاستفهام إنكارا وإبطالا للتسوية بين المؤمن والكافر، وفيه معنى التوبيخ للكافر لقرينة التذييل بـ: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)، فذلك نوع تعريض بمقتضى المفهوم فلا يتذكر من ليس له لب ينتفع به وإن كان له عقل يدرك به منطوق الحجة الرسالية، فمعه الاستطاعة الشرعية لسلامة الآلة التي يصح بمقتضى صحتها توجه الخطاب إليه وليس معه الاستطاعة الكونية التي يقع بها الفعل.

والشاهد أن حذف ما دل عليه السياق ضرورة يحسن في الكلام البليغ المبني على الإيجاز في المبنى والإطناب في المعنى، والتنزيل أحق الكلام بوصف البلاغة.

فلا يستويان، فمعنى المقابلة بين الطرفين ظاهر وإن لم يقع على صورته القياسية التي قررها البلاغيون، وما انتفاء الاستواء في العمل، إلا فرع على انتفاء الاستواء في العلم، على ما تقدم مرارا، من التلازم الوثيق بين العلم والعمل، فدلالة الاستفهام إنكارية إبطالية، وهو، من وجه آخر، يدل على خبر تحمل فيه "هل" على معنى "ما" النافية، فاجتمعت فيه الدلالة الإنشائية والدلالة الخبرية، فـ: لا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: فذلك من طباق السلب الذي يزيد المعنى تقريرا فهو آكد في بيان انتفاء التماثل في الحكم، بل التضاد فيه، فرعا على التضاد في الوصف الجالب له، وحسن التعريف بالموصولية، فالعموم، أيضا، يزيد المعنى تقريرا، فيجري مجرى القاعدة العامة، بل قد صار ذلك من الأمثال القرآنية الشائعة في نفي التماثل بين الضدين أو النقيضين، فبينهما من الاختلاف في الماهية ما يدل بداهة على الاختلاف في الحكم، وحسن ذلك من وجه آخر علق فيه الحكم على الوصف الذي اشتقت منه جملة الصلة فذلك، أيضا، آكد في تقرير الصلة العقلية الوثيقة بين الوصف والحكم الذي ينشأ منه.

وحسن الإتيان بالصلة على حد المضارعة استحضارا للصورة ترغيبا في طلب العلم النافع الذي يبلغ بصاحبه درجة القانت إن أحسن تأويله في الخارج فلم يصر علما نظريا مجردا، وتنفيرا من هجره فنفيه مما يذم صاحبه في كل الشرائع والأعراف فـ: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه"، كما أثر عن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، وهو مروي عن الشافعي، رحمه الله، في "حلية الأولياء" بلفظ: "كفى بالعلم فضيلة أن يدعيه من ليس فيه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل شيئا أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه". اهـ

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير