تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فليس للبدن وصف القيومية الذاتية، فذلك مما اختص به رب البرية، جل وعلا، فهو القيوم الذي يقوم بنفسه فلا يفتقر إلى غيره، بل هو المقيم لغيره، فيقوم بكمال صفاته الذاتية فهو الحي، ويقيم غيره بكمال صفاته الفعلية فهو المحيي، فالقيوم قد استجمع صفات الكمال الذاتية والفعلية، وليس ذلك مما يقبل الشراكة، فلا قيوم برسم الإطلاق، فلا يستغني عن الأسباب استغناء كاملا بل هي المفتقرة إليه في الإيجاد والعمل، لا قيوم برسم الإطلاق إلا واحد في ذاته، جل وعلا، أحد في صفات كماله، فقيام الكون على هذا النحو البديع مئنة من كمال وأحدية صفاته فما انتظام أمر الكون والخلائق إلا تأويل صفات فعله في العالم المشهود بكلماته الكونية النافذة فهي السبب الأول الذي صدرت عنه جملة من الأسباب المغيبة فـ: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، والمشهودة، فقد ركزت قوى التأثير في الأسباب المحسوسة التي يباشرها الإنسان بما أودع في آلاته من قوى الهضم والتمثيل، فقوى مركوزة في الأسباب وقوى مركوزة في الآلات يحصل بمعالجتها كمال الانتفاع للأبدان، وذلك، كما تقدم، من أظهر دلائل العناية والرحمة، والحكمة والدقة في تسيير هذه القوى على سنن الصحة والاعتدال، فلا تخرج إلى سنن الفساد والاعتلال إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، ضعف البدن ومرضه، فيكون ذلك، أيضا، من صور كمال الربوبية فلا يعرف الشيء إلا بضده، ولا يقدر على المتضادين: خلقا لهما بالقدرة النافذة ومدافعة بينهما بالحكمة البالغة، فتدافع الأسباب مما تظهر به حكمة الرب، جل وعلا، في تسييرها على وجه يحصل به الصلاح ويمتنع به الفساد، فـ: (لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

وإنما يزداد ظهور الضعف في بعض الأطوار دون بعض، فـ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)، فالضعف يظهر أعظم ما يظهر في المبتدى والمنتهى، فتلك، أيضا، من سنن الرب، جل وعلا، في كونه، في الأعيان والأحوال بل والدول كما أشار إلى ذلك ابن خلدون رحمه الله في "المقدمة"، وفيه إشارة لطيفة إلى انفراده، جل وعلا، بمعاني الأولية والآخرية المطلقة، فضعف المبتدى مئنة من الحدوث بعد العدم، وذلك مما يمتنع بداهة في حق الأول بذاته ووصفه، فأوليته، جل وعلا، مطلقة لم تسبق بعدم، فلم توجد ذاته القدسية عقيب عدم بل قد ثبت لها معنى الأزلية وانتفى عنها معنى العدمية. ولم يحدث له، جل وعلا، وصف لم يكن قائما بذاته، بل له كمال الوصف أزلا، فهو موصوف بكمال صفات الذات وكمال قوى الفعل وإن لم يقع تأويلها في الكون بعد، فكان قادرا على كل شيء بالقوة قبل الخلق، ثم قد صار بعد الخلق قادرا عليها بالفعل، فدعوى حدوث وصف كمال له بعد أن لم يكن، أو تعطيل ذاته عن وصف كمال حتى حدث له، دعوى باطلة لا تتصور إلا في المخلوق الذي يكتمل وصفه بتكرار فعله، فكماله أثر فعله، والرب، جل وعلا، قد ثبت له الكمال أزلا فلا يزداد بالفعل كمالا بل الفعل هو تأويل كماله في الخارج، فأثر الصفات الذاتية والفعلية هو ما يتكلم به رب البرية من كلمات كونية نافذة تصلح بها الأبدان، وكلمات شرعية حاكمة تصلح بها الأرواح، فكمال الرب، جل وعلا، يظهر أثره في الكون فبقضائه الكوني ينتظم أمر العالم، وفي الشرع فبقضائه الشرعي تستقيم أمور الأفراد والجماعات فالشرع يصحح التصور العلمي للأفراد، فيميز العقل بين النعمة الحقيقية والنعمة المتوهمة فهي نقمة آجلة وإن وجد الإنسان فيها لذة طارئة، فما امتاز الإنسان عن البهيمة إلا بتلك القوى الإدراكية التي لا ينتفع بها إلا بالسير على الطريقة الشرعية، فالعقل الصريح لا يستضيء إلا بنور الوحي الصحيح فلا تصلح أرضه إلا إذا أشرقت بنور النبوات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير