تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومعهم القول اللفظي، ومعهم جنس العمل وإن تخلفت منه آحاد كثيرة، فلا ينفك مؤمن عن عمل، ولو برسم النقصان أو التأخير، فلا بد أن يؤثر العقد العلمي الصحيح في أعمال الجوارح فيولد منها ما يصدق العقد الباطن، فالأعمال شاهدة للعلوم بالصحة أو الفساد، فدعوى الإيمان مركبة من العلم الباطن والقول والعمل، فيشهد الظاهر للباطن إلا إن كان الفاعل منافقا، وذلك استثناء لا يقاس عليه فلا يصلح لتقرير قاعدة كلية في مسألة دينية أو دنيوية، فالأصل هو المعتبر في تقرير القواعد فهو المطرد الذي يتحقق في أكثر الأفراد فلا يضر تخلفه في بعضها، فلكل قاعدة شواذها، فالقواعد العقلية أغلبية، وهي المعول عليها في القياس الشرعي، فأنيطت الأحكام بعللها فهي مظنة تحقق الحكمة فتلك الحال الغالبة فلا يضر تخلف الوصف في بعض الجزئيات، والشاهد أنه لا يتصور إيمان باطن بلا عمل ظاهر فهو تأويله في عالم الشهادة، وتأويل الخبر تصديق له بحضوره في الخارج فذلك قدر زائد على مجرد التصور الذهني، فلا يكفي التصديق الباطن حتى يظهر أثره العملي في الباطن: إرادات صالحة هي ترجمان ما يقوم بالقلب من علوم نافعة، ومن ثم يظهر أثر الحركة الباطنة في الصور القولية والعملية الظاهرة فذلك مقتضى الترتيب العقلي، فالفعل قبل حصوله ينشأ تصورا علميا في الذهن فيعقبه نية فهي انبعاث القلب، كما ذكر صاحب "مختصر منهاج القاصدين"، وكما ذكر البيضاوي، رحمه الله، في تعريف جامع مانع، فهي: "عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً"، وقال الإمام الغزالي، رحمه الله، في كلمة جامعة في هذا الشأن:

"وكانوا لا يرون أن يعملوا عملا إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وهو سبب مقت لا سبب قرب وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه نويت بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالبا ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها أو نعيم الجنة ويرغب نفسه فيها فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا وهذه أعز النيات وأعلاها ويعز على بسيط الأرض من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها". اهـ

فالنية تأويل ما قام بالقلب من تصور علمي ففسادها من فساده، وفساده من فساد مصدره، فإن كان مصدر التلقي غير النبوة، كان تصور النفع المجلوب والضر المدفوع فاسدا، فيرى الحق باطلا، والباطل حقا، ويرى الآجل النفيس خسيسا لا يستحق سعيا في نواله فيستبدل العاجل الخسيس به فبه يظن النفاسة فذلك مقتضى الكياسة: أن يقدم النفيس ويؤخر الخسيس، فتلك قاعدة عامة اتفق عليها العقلاء ولكنهم اختلفوا في تطبيقها، فلكلٍ معايير للنفاسة والخسة تخصه، فإن لم يردوا إلى أصل جامع يفصل النزاع في هذا الشأن، ضلت العقول في أودية الأهواء العقلية والأذواق الوجدانية، فقدم ما حقه التأخير فصارت النبوة تالية للعقل والذوق، وهي الحاكمة بالشرع الذي بعثت لتقريره، فكيف تصير تابعة برسم النافلة، وهي الفريضة التي لا تحصل براءة الذمة إلا بأداء حقها من الاتباع برسم الإطلاق، فـ: (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فالعموم في: "فيما شجر": يعم كل موارد النزاع العلمية والعملية، فينشأ الفعل علما فنية باعثة، فيظهر أثر ذلك الانبعاث الباطن في انبعاث الظاهر برسم القول والعمل، فيكون صلاحه أو فساده، أيضا، فرعا على صلاح أو فساد النية، فسلسلة الإسناد متصلة من تصور مجرد فنية هي تأويله العملي في الباطن، فللباطن عمله كما للظاهر، فالتصديق، كما تقدم، إن نظر إليه من جهة العلم فلا يكفي حصوله لحصول النجاة فلا بد من قدر زائد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير