تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه".

وقد يكون العذاب في الدنيا عذابا محسوسا كالذي نرى صورا منه الآن من سقم الأبدان ومعدلات الأمراض الفتاكة في زماننا خير شاهد على ذلك، فقد زاد في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ بل مطرد فهو في ازدياد متصل، وقل مثل ذلك في ضيق الأرزاق وارتفاع الأسعار على نحو شغل النفوس بتحصيل مطعوم البدن الخسيس الذي يصير عما قريب إلى ما قد علم من فضلة يستحى من ذكرها صراحة، وأذهل العقول عن غاية الخلق الأولى، غاية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

وأما عذاب البرزخ فقد تواترت النصوص في إثباته على جهة الحقيقة التي يجوزها العقل ولا يحيلها، وإنما يحار في تعيين حقيقتها فالعقل لا يدرك بقياسه القاصر على أحكام هذه الدار فقد علق التكليف فيها به، لا يدرك بذلك القياس القاصر أحكام دار أخرى، فلكل دار أحكامها، فالعذاب في الدنيا واقع على البدن أصلا والروح تبعا، فيتألم البدن ومن ثم تليه الروح في الترتيب، والعذاب في البرزخ واقع على الروح ابتداء والبدن تبعا، ومن ثم يكتمل الإحساس باللذة أو الألم في دار الجزاء فيكون النعيم أو العذاب في حق الروح والجسد معا فلا يقع بينهما من التفاضل ما قد وقع في الدارين الأوليين.

والشاهد أن الإرادة تنقسم مادتها إلى شرعية، فـ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، فهي متعلق الرحمة، وكونية فـ: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فهي متعلق العذاب الذي سبقت الإشارة إليه.

والعموم في المفعولين: "عبد" و: "خيرا": قد ثبت بدخولهما في حيز الشرط، فالنكرة في سياق الشرط مئنة من العموم، فحصل العموم في فعل الإرادة بالنظر إلى المصدر الكامن في الفعل، فتسلط الشرط عليه من جنس تسلط النفي عليه فكلاهما مئنة من العموم، وحصل في المفعول، وذلك أبلغ ما يكون في تقرير القواعد العامة، فإذا أراد الله، عز وجل، بعبد خيرا، نكر، أيضا، للدلالة على معنى التعظيم، وأي خير أعظم من الرضا بقضاء الله عز وجل، فإذا أراد به الخير فضلا وامتنانا، ولو شاء لحجبه عنه عدلا، فالحكمة، كما تقدم في مواضع عدة، تكون بوضع الشيء في موضعه الذي يلائمه، فتوضع مادة الفضل بتيسير الطاعة في المحال الكاملة، وتوضع مادة العدل بتيسير المعصية في المحال الناقصة، فإذا أراد به خيرا: أرضاه فذلك من الوصف الفعلي المتعدي بالهمزة، فالرب، جل وعلا، يرضى، فذلك وصف الفعل المتعلق بمشيئته النافذة فيرضى إذا شاء وجود سبب الرضا، فيرضى عمن رضي بقضائه، فالجزاء من جنس العمل، فالمشاكلة بين رضاه ورضا عباده بقضائه حاصلة في اللفظ وأصل المعنى، وإن حصل التباين العظيم بين حقيقة رضاه الكاملة التي تقوم بذاته القدسية وحقيقة رضاهم فلا تنفك عن حقيقة ذواتهم الأرضية التي تقوم بها، فلكل ذات ما يليق بها من الأوصاف كمالا أو نقصانا، فإذا أراد به خيرا: أرضاه بما قسم له فذلك عموم آخر يشمل المقسوم في أزمنة العافية سعة، والمقسوم في أزمنة الابتلاء ضيقا، فهو راض بكل حال، وتلك مرتبة شريفة لا ينالها إلا آحاد المقربين، فهي تعلو مرتبة الصبر حال المصيبة التي يعجز عنها أكثرنا فكيف بالمرتبة التي تليها؟!، ثم بعد إرضائه بارك له في عطائه فذلك من الإطناب في بيان الجزاء حضا على لزوم الوصف الجالب له، فالرضا ذريعة إلى عظم البركة في القليل فيصير كثيرا، كما أن السخط مظنة تحقير النعمة ولو عظمت فلا تطيب لصاحبها وتلك من أعظم العقوبات التي تنال من ازدرى نعم الرب جل وعلا، فحصل التشويق بإيراد الشرط ابتداء فتطلعت النفوس إلى وصف من بلغ تلك الدرجة الرفيعة فاختاره الرب، جل وعلا، بإرادته الكونية النافذة ليكون محل عنايته بإيصال الخير إليه دون غيره، وقد أفاد الشرط بمنطوقه ومفهومه، فدليل خطابه عكسا: وإن لم يرد به خيرا لم يرضه بقضائه ولم يبارك له فيما أعطاه ولو كثر.

وقد وردت نصوص أخرى كثيرة علق فيها فعل الرب، جل وعلا، على الإرادة الكونية النافذة من قبيل حديث: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَالَ: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ"، فإذا أراد به خيرا بمقتضى ما قدر له كونا، وفقه إلى عمل صالح فذلك مقتضى الإرادة الشرعية الحاكمة فوقع الاقتران هنا، أيضا، بين الإرادتين: الشرعية والكونية، كما قد وقع بين إرادة الرب، جل وعلا، الكونية وفعل العبد: رضا بقسمه، تبارك وتعالى، فذلك، بداهة، من تأويل الإرادة الشرعية بإيقاع مراد الرب، جل وعلا، الذي يحب ويرضى، فالعبد المسدد من اجتمعت فيه الإرادتان فهو على سنن الشرع سائر برسم: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)، وهو على سنن الكون سائر برسم: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فلن يكون شيء في الكون إلا بمشيئة الرب الخالق المدبر جل وعلا.

ومثله أيضا: حديث: "إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا قبل موته بعام يسدده ويوفقه حتى يموت على خير أحايينه": فيقع للعبد: التوفيق الكوني إلى امتثال الحكم الشرعي فعلا للمأمور وكفا عن المحظور.

وضده إردة الشر فلا تكون إلا كونية، فـ: "إذا أراد الله بعبد شرا أهلك ماله في الطين واللبن"، ففاته امتثال الأمر الشرعي لسبق القضاء الكوني، فالمحل خبيث لا يقبل آثار الخير والصلاح.

ولا تعارض بين كل هذه النصوص فلم يرد أي منها بصيغة الحصر فلا تمنع إرادة شيء إرادة آخر، فذلك من تعدد آحاد فعل الإرادة الكونية النافذة، فهي من الوصف الفعلي المتجدد بتجدد مشيئة الرب، جل وعلا إيقاع ما شاء في كونه، فيريد الرب، جل وعلا، ما شاء، برسم القدرة النافذة والحكمة البالغة، فـ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، ويقضي ما يريده كونا فلا راد لقضائه المبرم في الأزل المسطور في الكتاب الأول، فهو: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير