تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عذابا معنويا برسم الذل العام الذي نال من نفوس كثيرة فغفلت عن تأويل النهي في قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فالقيد في آخر الآية: قيد فارق به علم سبب الانتكاسة، فلم يتحقق السبب ليقع مسبَّبه في الخارج، فالإيمان ذريعة إلى العلو برسم العدل، فذلك علو الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم برسم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، في مقابل علو أعدائهم، فـ: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ)، و: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)، فليس لهم من الدار الآخرة نصيب، فـ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فاللام في: "للذين": مئنة من الاختصاص، وورود النكرة في سياق النفي مئنة من العموم فلا يريدون أي علو في الأرض، وهو عموم مخصوص، كما تقدم، بعلو المؤمنين، فليس من جنس علو من علا في الأرض بغير الحق، بل لا يكون علوهم، كما تقدم، إلا برسم العدل، بل والفضل فلا يأمن الناس ولو كفارا على أديانهم وأبدانهم إلا في ظل حكم النبوة، فدولة النبوة: دولة العدل الذي تقوم به السماوات والأرض فتنال بركته المخالف برسم الذمة أو العهد أو عقد الأمان، قبل أن تنال الموافق، فيكون العلو بقدر الإيمان فالأول فرع على الثاني فكلما ازداد الإنسان رسوخا في الإيمان، ازداد علوا برسم: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فهو عزيز في مواضع الجلال هين في مواضع الجمال بل ذليل لأهل الإيمان، وتلك سنة مطردة منعكسة، قد ظهر تأويلها في الزمان الأول فكان المؤمن أذل ما يكون لأخيه وأعز ما يكون على عدوه في الدين، وفي الزمان القريب والحاضر فصار المؤمن أعز ما يكون على أخيه برسم القهر والقسوة بل والفتنة في الدين بالقتل والحصار والتنكيل والتعدي على الحرمات الشرعية التي جبن الكفار الأصليون عن انتهاكها!، وأذل ما يكون على عدوه برسم المداهنة وإعطاء الدنية في الدين استبقاء لعرض زائل بل ربما تعدى ذلك إلى صورة التآمر مع أعداء الديانة وهي مظنة وذريعة إلى الوقوع في النفاق الأكبر فصاحبه أشد ضراوة من الكافر الأصلي، فتلك حال كثير من أمصار المسلمين، من لدن زال رسم الخلافة بل قبله بسنين، فقد نخر السوس أركان العزة في نفس المؤمن لا سيما بعد ظهور التيارات العلمانية الملحدة في أوروبا وتأثر كثير من المسلمين بمقرراتها فالمبتعثون المفتونون بمدنية أوروبا في مقابل تخلف المسلمين المادي الذي نجم عن فساد تصورهم لمعنى الدين الجامع للشعائر والمعاملات والسياسات وسائر مناحي الحياة فانزوى الدين شيئا فشيئا حتى انحصر في الشعائر والشرائع التي صارت محط أنظار العلمانية تقليصا وتشكيكا في جدوى العمل بها في هذه الأعصار المتقدمة وقد انتدب لذلك من انتدب من شيوخ الفتنة وعلماء السوء الذين روجوا لقوانين أوروبا بتقريبها إلى شريعة الملة الخاتمة في محاولة توفيقية بل تلفيقية عند التحقيق من جنس محاولة ابن سينا ومن سار على طريقته من الفلاسفة في تقريب فلسفة أرسطو الإلحادية إلى ملة الأنبياء التوحيدية، فهذا تلفيق في التصورات العلمية، وذاك تلفيق في الأحكام العملية، فقد حمل أولئك جراثيم ظلت كامنة في الجسد الإسلامي حتى تمكنت منه بالتدريج فتلك سنة الرب الحكيم العليم، جل وعلا، فحصل الانهيار شيئا فشيئا حتى كان السقوط الرسمي فهو عند التدبر والنظر مسبوق بالسقوط الفعلي فلم يبق إلا الإجهاز على الصورة بعد إفناء الجوهر، ولا سبيل إلى النهوض مرة أخرى إلا بالسير على نفس السنة ولكن في الاتجاه العكسي فلن يكتمل البنيان مرة واحدة بل تولد الأمم ضعيفة فتقوى شيئا فشيئا حتي تصير على رسم الكمال ثم يلحقها الضعف شيئا فشيئا حتى تنهار، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، رحمه الله، في "المقدمة" فتلك سنة: "حقٌّ على الله أن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير