تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن العلة الغائية تسبق العلة الفاعلة في التصور الذهني، وإن كانت تتلوها في الوجود الفعلي، فلا تقع الغاية في الخارج ابتداء، وإنما تقع ببذل السبب الجالب لها، فذلك من قبل الترتيب في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإياك نعبد غاية تقدم ذكرها، وإياك نستعين وسيلة تأخر ذكرها، وإن كانت الوسيلة تقع في الخارج أولا فبها يتوسل إلى الغاية التي تقع ثانيا، ومع ذلك يحصل تصور الغاية في الذهن أولا، فتلك علة تقديمها في الذكر، فهي الأصل وإن تأخر ظهوره في الخارج لتقدم نشوئه في الذهن، وهي الأشرف قدرا فالوسيلة تتبعها صحة أو فسادا، فليست إلا ذريعة إلى حصولها فهي المراد لذاته والوسيلة قد أريدت لغيرها وما أريد لذاته أشرف بداهة مما أريد لغيره، ولذلك كانت علوم الغايات أشرف من علوم الآلات فهي وسائل يتوسل بها إلى ضبط الغايات.

فلن يقدم أي إنسان ذو تصور وإرادة اختيارية يباين بها الحيوان لن يقدم على أي عمل، ولو كان فسادا في نفسه وإفسادا لغيره من الأعيان الآدمية بالقتل والجرح والضرب بلا وجه حق أو الأعيان المملوكة من منازل ومراكب ونحوه لن يقدم على ذلك إلا بعد رسوخ تصور علمي في ذهنه يكون من وجه: كاشفا عن غاية شريفة، بزعمه!، ومن آخر: باعثا على ابتغاء الوسيلة التي يحصل بها في الخارج لينال مراده الديني أو الدنيوي، والسنة الكونية قاضية بأن أشرف الغايات كما تقدم: الغايات الدينية ولو كانت على خلاف الملة التوحيدية الجامعة، دين المرسلين جميعا، فلا أشرف من غاية كهذه لشرف متعلقها فهو الروح، كما تقدم، فتكون الخصومة والمنازعة فيها أعظم من الخصومة والمنازعة في غاية دنيوية دنية، تتجاذبها الهمم الخسيسة تجاذب الكلاب للفريسة، وذلك أمر لم يعلمه إلى الآن أو علمه وتجاهله من يردد أطروحات فكرية تقصي الدين عن ساحة النزال فتجعل معقد الولاء والبراء لطرائق حادثة من قبيل العصبية اللغوية باسم القومية، والعصبية الوطنية باسم المدنية التي تسوي بين المواطنين جميعا من كل وجه مع اختلافهم في أوصاف كثيرة فإجراء حكم واحد عليهم مع تباينهم في الوصف مما يدل، أيضا، على سفه في العقل وفساد في القياس بالتسوية بين المتباينات، مع ادعاء صاحبه الحكمة البالغة والعقل السليم السديد في أحكامه!، وكل يدعي ما يروق له وقوله يشهد له أو عليه.

وطاعة الكافر من وجه آخر: ذريعة إلى الخسران، فـ: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)، فلم ينلهم إلا سخط الرب، جل وعلا، فحبط عملهم لمجرد طاعة أولئك في بعض الأمر، وذلك مما يحسن الانتباه إليه في أمور قد يظن كثير من المسلمين أنها هينة وهي عظيمة لأثرها المتراكم في النفوس، كمسألة المشاكلة في الصورة الظاهرة فإن ذلك لا يكون ابتداء إلا لمشاكلة في الصورة الباطنة، فلا يشبه الزي الزي حتى يشبه القلب القلب ولا تنفك الصورة الباطنة أيضا عن تأثر بالصورة الظاهرة، فالتأثير والتأثر بينهما متبادل فذلك من جنس ما سبقت الإشارة إليه مرارا من التلازم الوثيق بين الباطن بعلومه والظاهر بأعماله ورسومه، فلما أطاعوهم في بعض الأمر بل في كثير منه كما هي الحال في زماننا حتى بلغ الأمر حد موالاتهم من دون المؤمنين بل ومظاهرتهم عليهم!، لما بلغ الأمر هذا الحد المهين: نالهم إمعانا في النكاية بهم ضد مرادهم، فأسخط الرب، جل وعلا، عليهم من راموا بالمداهنة إرضاءه فلم يزدد إلا كبرا وظلما، ولم يزدادوا إلا ذلة ومهانة، وتلك سنة كونية جارية في العقوبة الشرعية والكونية فيعاقب من عصى لنيل شيء بضد ما أراد فيحرم منه، فأحكام الشرع والكون متلائمة يدل اطرادها على وحدانية وأحدية من صدرت عنه.

والله أعلى وأعلم.

ـ[أنوار]ــــــــ[30 - 11 - 2010, 05:09 ص]ـ

بوركتم أستاذنا المفضال ..

وكُتب جهدكم في موازين أعمالكم

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير