اختلف الناس في القراءة، كما اختلفوا في الأحكام، ورُوِيت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين توسعة ورحمة للمسلمين. وبعض ذلك قريب من بعض. وحَمَلَة القرآن متفاضلون في حَمْله. ولِنَقَلَةِ الحروف منازل في نقل حروفه. وأنا ذاكرٌ منازلهم، ودالٌّ على الأئمة منهم، ومُخْبرٌ عن القراءة التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام، وشارح مذاهب أهل القراءة، ومبيّن اختلافهم واتفاقهم، إن شاء الله، وإياه أسأل التوفيق بمنّه ([45]).
وحقاً عرض ابن مجاهد أئمة القراء السبعة واحداً واحداً، حسب الترتيب الذي أثبتناه غير بعيد. وساق أنسابهم، وأحصى شيوخهم الذين تلقّوا عنهم القراءة، حتى وصلهم بالرسول r. وذكر الأسانيد التي وصلته بقراءة كل إمام منهم، وأوفى بكل ما تعهّد به في كلامه الذي أوردناه، وسمّى كتابه "كتاب السبعة"، وهو يريد بالسبعة أئمة القراء الذين اختارهم.
وقد أعجب المسلمون بهذا الكتاب، وقبلوه قبولاً حسناً، وارتضاه جمهور العلماء والقراء، واتفقوا على تقويمه وتعظيمه، واتبعوا قراءات هؤلاء السبعة من أئمة القراء، وأجمعوا على أنها مرويّة بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم. وحقاً كان هذا الكتاب إنجازاً فذّاً رائعاً، اصطفى فيه صاحب صفوة قراءات القرآن، ونجح بذلك في دَرْءِ خطر الفوضى، وفي دفع أسباب الاختلاف في قراءة كتاب الله العظيم، ومنع التباس الباطل بالحق، وجمع المسلمين على مَحَجَّة واحدة سَوِيّة. فاعتمده أجيال القراء، ونقلوه وقرؤوه جيلاً بعد جيل، وظل العلماء يروونه ويُقْرِئونه تلاميذهم على طول العصور المتوالية.
قال الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجَزَري، المتوفى سنة 833 هـ، في كتابه الكبير "النشر في القراءات العشر":
كتاب "السبعة" للإمام الحافظ الأستاذ أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي. وتوفي بها في العشرين من شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. أخبرني به الشيخ المُسْنِد الرُّحَلَة أبو حفص عمر بن الحسن بن مَزْيَد بن أميلة المَرَاغِي بقراءتي عليه، في سنة سبعين وسبعمائة، بالمِزَّة الفوقانية، ظاهر دمشق، عن شيخه أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المَقْدِسِي، عن الإمام أبي اليُمْن زيد بن الحسن بن زيد الكِنْدِي سماعاً لبعض حروفه، وإجازة لباقيه. وقرأت القرآن بِمُضَمَّنِهِ على الشيخ أبي محمد بن البغدادي، وإلى أثناء سورة النحل على أبي بكر بن الجندي. وأخبرني أنهما قرآ به على شيخهما أبي عبد الله محمد بن أحمد الصائغ. قال: قرأت به على الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل التميمي. قال: قرأت به على أبي اليمن الكِنْدِي. قال الكندي: أخبرنا به أبو الحسن محمد بن أحمد بن توبةَ الأسدي المقرئ قراءة عليه، وأنا أسمع. قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هَزَارِ مَرْد الخطيب الصَّرِيفيني. قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن إبراهيم بن أحمد بن كثير الكتاني. قال: أخبرنا المؤلف المذكور سماعاً عليه لجميعها، وتلاوة لقراءة عاصم. وهذا إسناد لا يوجد اليوم أعلى منه، مع صحته واتصاله ([46]).
وقام العلماء بعد أبي بكر ابن مجاهد، فألّفوا في القراءات أنواع الكتب. ومنهم أبو بكر أحمد بن الحسين بن مِهْران الأصبهاني الذي ألّف كتباً في القراءات ([47]). منها كتاب "المبسوط في القراءات العشر" ([48])، ذكر فيه قراءة القرّاء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، وأضاف إليهم قراءات ثلاثة أئمة آخرين. وهؤلاء الثلاثة هم:
1. أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ المدني، المتوفى سنة 130 هـ؛
2. أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن أبي إسحاق الحَضْرَمِي، إمام أهل البصرة ومقرئها في زمنه. توفي سنة 205 هـ؛
3. أبو محمد خلف بن هشام بن طالب البَّزَّار البغدادي. توفي سنة 229 هـ.
® ® ®
ثم ألّف أبو الحسن طاهر بن أبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غَلْبُون الحلبي، نزيل مصر، كتاب "التذكرة في القراءات الثماني". وتوفي سنة 399 هـ ([49]).
وتبعه أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، وألّف كتاب "المنتهى في القراءات العشر" الذي جمع فيه ما لم يجمعه أحد قبله. وتوفي سنة ثمان وأربعمائة ([50]).
¥