فهذه رواية تفرّد بها ابن بريدة وخالف الباقين، وتأويلُ أغلاطها فيه تكلّف ظاهر. فقوله "أصيب في أول الجهاد مع رسول الله" وقوله "فلما تأيمتُ" مخالف للمحفوظ، وقوله: "ابن عمك ابن أم مكتوم" أنكره القاضي عياض وقال: ((والمشهور خلاف هذا، وليس هما مِن بطن واحد)).
أما قولي: إن حديث فاطمة غريب فرد، فهو قول موجود مِن قبلُ، وردَّ عليه ابن حجر فما أجاد، وتابعه مَن أتى بعدَه. ولم أجد لك جواباً عن هذا: كيف يصحّ الاحتجاج برواية مجالد ورواية الوليد بن جميع في إثبات متابعات لفاطمة!
وأما قولي إنها رضي الله عنها في حِفظها شيء وأنها وهمت في حديثها، فأنا مسبوق إليه:
- قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعابت على فاطمة، وقالت: "لا يضرّك ألاّ تذكر حديث فاطمة".
- وقاله عمر بن الخطاب حين رَدَّ حديثها وقال: "لا ندري لعلها حفظت أو نسيت".
- وقاله مروان بن الحكم حين ردَّ حديثها الذي تفرَّدَت به فقال: "لم نسمع هذا الحديث إلاّ مِن امرأة! سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها".
- وقاله سعيد بن المسيب حين قال عن فاطمة بنت قيس: "تلك امرأة فتنت الناس".
- وقاله الأسود بن يزيد حين سمع الشعبيّ يحدّث بحديث فاطمة في المبتوتة، فقال له: "ويلك! تحدّث بمثل هذا! ".
فهذه أقوالٌ صريحةٌ في أنَّ روايتها مجروحة لأنها ليست ضابطة للحديث، وغنيٌّ عن البيان أنَّ عدالتَها رضي الله عنها لا مدخَلَ لها هنا.
وأما قولي: إن أحاديث فاطمة مرجوحة عند البخاري، فسبقني إلى ذلك ابن حجر. وأما قولي: إن بين خبرَي الجساسة وابن صياد تعارض، فسبقني إليه ابن حجر وغيره من العلماء الذين تكلّموا في أمر ابن صياد.
وأما قولي: إن هذه القصة تعارض قوله صلى الله عليه وسلم في حديث رأس المائة سنة، فقد سبق واحتجّ به البخاريّ وغيرُه على موت الخضر وأنه ليس حياً. وهو نفس ما استدلّ به ابن عثيمين في كلامه على قصة الجساسة. وأما قولي: إنها تعارض قوله تعالى: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد"، فقد سبق واحتجّ بها العلماء ومنهم ابن كثير على موت الخضر وأنه ليس حياً.
وقد كان الشيخ الفاضل أبو المظفر السناوي صاحب المشاركة رقم 8 في هذا الموضوع أكثر إنصافاً حين قال:
نعم: نحن لا ننكر ما في طرقه من الاختلاف والتضارب! لكن ذلك لا يجعلنا نتجشم التخرص الباطل في توهيم مثل تلك الصحابية الجليلة في جميع قصتها! في حين تقول أنتَ: ليس في هذه الروايات مشكل أصلاً!!
أقول: يقول الشيخ عبد الرحمن البراك: لا يمتنع أن يكون ما دل عليه حديث الجساسة من وجود الدجال مخصصا لعمومِ حديثِ لا يأتي على رأس مائة سنة وعلى وجه الأرض ممن كان عليها وقت حديث النبي صلى الله عليه وسلم، هذا والله أعلم بالصواب. وقال البعض: ربما أراد صلى الله عليه وسلم الآدميين المعروفين، وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم، كما لم تدخل الجن، وإن كان لفظا ينتظم الجن والإنس.
أقول: أحاديثُ ابن صياد هل كانت بوحيٍ أم لا؟ فإن قلتَ نعم، إذن أسقطتَ حديث الجساسة. وإن قلتَ لا بل أُوحي بعدَها إلى النبيّ بأوصاف الدجال، إذن فالعبرةُ بما جاء به الوحيُ آخِراً، وإذن أسقطتَ حديث الجساسة أيضاً! فإنَّ قصة الجساسة - لو صحّت - إنما نَقَلَها النبيُّ عن تميم ولم يقلها بالوحي، بينما حديث رأس المائة سنة قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي قبل وفاته بشهر، فالعبرة به لا بما كان سابقاً عليه مِمَّا ليس وحياً، فتأمّل.
ويقول الأخ الأقطش: حديث الجساسة معارضٌ لأحاديث ابن صيّاد كما نصّ على ذلك ابن حجر، وقال: إن الجمع بينهما بعيدٌ جداً!
أقول: كلا ليس معارضاً لها. هو يعارض كون ابن صياد هو المسيح الدجال. والذي استقر عليه الأمر في الآخر أن ابن صياد مجرد دجال من الدجالين، وقد ولد في المدينة وأسلم ودخل مكة حاجاً، ومات، ولم ينطبق عليه شيء من صفات الأعور الدجال.
¥