تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كانت القضية محل نزاع في المجتمع، وتتجاذبها أطراف شتى، كالحجاب والسفور، والاختلاط وعدمه، وخروج المرأة وقرارها في البيت، وقضايا الحرية والديمقراطية والانتخابات، فكل هذه القضايا ومثيلاتها محل نزاع بين التيارات العلمانية من جهة، والتيارات الإسلامية من جهة أخرى، وصوت الدعاة والعلماء فيها يكون في المساجد وعلى المنابر وعبر وسائل إعلام محدودة، وصوت العلمانيين فيها يكون في الصحف وأكثر المجلات والقنوات الفضائية والإذاعية، والناس يشهدون هذه المعارك الفكرية، ويعيشونها كل يوم، فأرى أن لا يكون استدلال الخطباء على ما يرونه حقا في تلك القضايا إلا بالأدلة الواضحة التي لا ينازع فيها إلا مكابر؛ لأن من شأن الاستدلال بالأدلة المشتبهة أو المحتملة أو الضعيفة الدلالة أن يقضي على قضيته في أذهان الناس، ولو جاء بالأدلة الواضحة معها لما يلي:

أولا: أن الأدلة الواضحة على المعنى الذي يريده تفي بالمقصود، وهو يخاطب مسلمين مستسلمين -في أغلبهم- للنصوص الشرعية، ويكفيهم منها دليل واحد واضح للقبول والانقياد عن عشرة أدلة ليست واضحة، أو في الاستدلال بها عسف وتكلف.

ثانيا: أن الأدلة المحتملة قد تنسي المصلين الأدلة الواضحة، وقد ينشغلون بالتفكير في مدى صحة الاستدلال بها أو الإيرادات التي ترد عليها عن الاستماع إلى الخطيب، فيصرفهم أو بعضهم عنه، وهو يريد منهم الاستماع إليه.

ثالثا: أن الخصوم يتعلقون بضعيف الدلالة ويجعلونه أصلا في المناقشة، فتنقل القضية من أصلها إلى مناقشة دليل محتمل أو ضعيف، فيحشر الخطيب في زاوية الدفاع عن استدلاله، وتنسى القضية الأصل، وللمنحرفين مكرٌ كُبَّار في ذلك، وبراعة في التشويش على العوام من هذا الباب، ولا سيما أن أكثرهم ممن إذا خاصم فجر.

وحتى لو لم تجر مناقشة ذلك مع الخطيب في حينه، فليفترض الخطيب أن المصلين عقب الجمعة يناقشون في مجالسهم ما قاله الخطيب، وفي الغالب أن مجالس الناس تجمع التيارين أو المتعاطفين مع أحدهما، فإذا أثبت المخاصم للناس ضعف استدلال الخطيب بدليل واحد من عشرة أدلة في قضيته التي ساقها فإنه يكسب بذلك أمرين:

أ - صرف نظر الناس عن موضوع الخطبة وأدلتها الأخرى إلى هذا الدليل الضعيف أو المحتمل.

ب - التشكيك في كل ما ذكره الخطيب من القضايا الأخرى، بل التشكيك فيما سيلقيه مستقبلا، ونزع ثقة الناس فيه.

سابعها: إذا أنهى الخطيب صلاته، ثم سئل عن معنى في آية استشهد بها، أو أورد أحد المصلين عليه إشكالا في استدلاله، أو دليلا آخر ينقض ما قرره في خطبته، فلا يخلو الخطيب من حالين:

الأولى: أن يكون عنده جواب لهذا الإشكال، ويعلم ما قد يورد على استدلالاته من أدلة أخرى، ولديه أجوبة لها -ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا بالتحضير الجيد- فليزل تلك الإشكالات، ويُجِبْ عنها بما آتاه الله تعالى من علم وفقه وتحضير جيد لموضوعه.

الثانية: أن لا يكون عنده جواب لهذا الإشكال، ولا يعلم بالأدلة التي أوردت عليه، فلا يجوز له حينئذ أن يُخلِّص نفسه من هذا المأزق بالكذب، أو بنفي ما لا يعلم مع احتمال ثبوته، ولا يَحِلُّ له أن يُصِّرَ على رأيه وهو غير متأكد مما أُورد عليه، وسأورد مثالا على ذلك إن شاء الله تعالى من السنة في مقال مستقل بعنوان (استدلال الخطيب بالسنة).

ثم إن المناقشين لما في الخطبة من معلومات على أضرب ثلاثة:

الأول: أهل العلم والفقه والفضل ممن يوقن الخطيب أو يغلب على ظنه صوابهم وخطأه، وهؤلاء يجب عليه أن يخضع لهم، ويستفيد من علمهم، ويشكرهم على تعقباتهم له.

الثاني: المسترشدون، وهم غالبا ناصحون محبون للخير، متأثرون بالخطبة، ويريدون التطبيق والعمل، فيسألون عن بعض التفصيلات، أو انقدحت عندهم إشكالات مما ذكره الخطيب؛ لوجود مقررات سابقة لديهم، أو نصوص تعارض ما قاله خطيبهم.

وهؤلاء يجب على الخطيب العناية بهم، والتلطف معهم، وإزالة ما لديهم من إشكالات. فإن قدر الخطيب على ذلك ساعة سؤاله فذاك، وإلا طلب منهم إمهاله حتى يبحث مسائلهم فيجيبهم عنها، وبحثه لها يفيده هو أكثر مما يفيدهم هم.

الثالث: المكابرون المتصيدون، وهم غالبا لا يكونون على وفاق مع منهج الخطيب وأفكاره، أو في قلوبهم ضغينة عليه، أو حسد له، فيريدون إسقاطه وإحراجه.

وأرى في تعامل الخطيب مع هؤلاء أن يدرأهم عنه قدر الإمكان، ويداريهم في الحق ما استطاع، ويجتنب جدالهم ومناقشتهم؛ لأنهم ليسوا طلاب حق. والمجادلة معهم تحقق غرضهم، وقد تصل بالخطيب إلى حد المماراة التي نهي عنها، والإعراض عنهم خير من مواجهتهم.


(1) رواه مسلم (873).
(2) رواه مسلم (862).

ـ[أ. د.عبد الفتاح خضر]ــــــــ[15 - 09 - 08, 07:39 ص]ـ
جزاك الله خيرا على هذه الباقة العطرة من المعلومات التي تخص الخطابة والخطيب وكيف يقنع الجمهور,

ـ[إبراهيم بن محمد الحقيل]ــــــــ[16 - 09 - 08, 03:40 ص]ـ
أحسن الله تعالى إليك دكتور عبد الفتاح، وشرف مقامك، وسرني اطلاعك على المقال نفع الله تعالى بك الإسلام والمسلمين
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير