تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين - الحلقة الأولى]

ـ[عبدالله الوائلي]ــــــــ[13 - 04 - 10, 11:27 ص]ـ

آية في كتاب الله تعالى لم تتجاوز حروفها خمسة وعشرين حرفاً تُوقِف المرءَ على الحقيقة الكبرى التي جاءت بها الرسالة المحمدية في رسم بلاغي فريد، ونسق بياني لا نظير له، وبحر من المعاني لا يحاط به، لتكون هذه الأحرف المحدودة والكلمات المعدودة باباً مشرعاً وبرهاناً مقنعاً لمن أراد الولوج من خلاله إلى ذلك الأفق الفسيح والفضاء الوسيع حيث سكنُ القلوب، وسكينةُ النفوس، وانشراح الصدور، واستقرار الفطرة، وتناسق الحياة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء/9]

فالبشر كلهم يبحثون عن الرحمة ويتلمسون أسبابها التي تضم بين طياتها السكينة، والأمان، والاطمئنان، والاستقرار، والعدل، وصيانة الحقوق، وضربوا من أجل ذلك في كل واد هائمين على وجوههم، فكلما ظفروا بقطعة رحمة –ولو ظنا أو وهما- في تجربة أو عرفٍ أو قانون أو سياسة احتضنوها وفخموها ولاذوا بها وعدّوها رأس النجاة وعنوان الفخر ويتيمة الدهر، وما أن يعيشوا في كنفها الموهوم شيئا من الوقت ويتهيئوا لاستقبال هبات نسيمها حتى تكشف لهم عن حقيقتها ويكتشفوا هم مخبوءها فتلفحهم بجحيمها ويدركوا أن الوهم قد كان غشَّى أبصارهم وغطى قلوبهم فما زالوا في العذاب والضنك قائمين، فتراهم ينقبون عن غيرها وينتقلون إلى سواها راجين أن يسوقهم السبيل المضني إلى مستقر الرحمة وكنف الراحة ومأوى الأمن فمن أراد الله به خيراً أدركها ومن كتبت عليه الشقاوة قضى عمره في الضنك والضيق والعذاب ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى/8].

ولا أدل على ذلك في عصرنا الحاضر - (المحتضر) لا المتحضِّر- من كثرة المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تزعم أنها تعنى بحقوق الإنسان، والتي تحاول من خلالها توفير الحد الأدنى من (الرحمة) التي تنتظم بها حياتهم وسط موجات العذاب وخضخضات الزلزلة التي تعصف بهم وتنغص كل لحظة من لحظات حياتهم، وكل شعبة من شعبها.

إن الإنسان بفطرته وصفاته وسماته وتركيبته قد جبله الله خالقه عز وجل على حالات متداخلة جلية وخفية، ومشاعر وأحاسيس متنوعة ومتقلبة، وإدراكات متعددة ومتفاوتة، ورغبات متداخلة ومتعارضة، ويحتاج في حياته كلها أن يعيش مع كل هذه الأمور في توافق وتناسق يطابق أو يقارب الصورة المثلى التي تستقر معها فطرته وتسكن نفسه ويهدأ فؤاده ويهنأ باله، وتنضبط أفعاله وتتلاءم تصوراته مع الحقائق الكبرى التي غرست في أعماق قلبه مما لا يجد لها مدفعاً ولا منزعاً، وأي اضطراب أو اختلال يحصل في الفطرة أو الصفات أو الأفعال أو التصورات فإنه سيجر على صاحبه من الوبال والنكال والغرق في بحار الأكدار، والبعد عن (الرحمة) بحسب قربه أو بعده من حالة الكمال الإنساني الذي ينبغي لكل عاقل أن يسعى إليه، ذلك الكمال الذي لا يمكن تحصيله بل ولا إدراكه إدراكاً تاماً والتعرف عليه معرفةً وافيةً أصلاً إلا من خلال الوحي المنزل من عند خالق الخلق مالك الملك وهو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك/14]

فهناك صورة مثلى وحالة اكتمال -سواء للأفراد أو للمجتمعات- يسعى الجميع لبلوغها والظفر بها ليصلوا عندها إلى المستقر الذي تصبو إليه كل نفسٍ تبعا لما جبلت عليه، فتحظى من خلاله بالسكينة الدائمة، والطمأنينة العميقة، والأمان الكامل، والرحمة الشاملة، والحياة الطيبة، والعيشة الهنية، وما تفاخر المجتمعات –قديما وحديثا- بعضها على بعض إلا بناء على نصيبها مما اقتنصته وأدركته وتوصلت إليه من أسباب الاستقرار، والتوسعة، والتراحم، والتوائم الذي يحصل بين أصحابها والعدل في تحصيل حقوقها، وهذه هي الغايات التي يحاول كل رئيس أو ملك أو أمير مهما بلغ من الطغيان أن يقنع شعبه وأتباعه أنه قائمٌ لتحقيقها، ساعٍ في تحصيلها، داعٍ إلى تكميلها، مجتهد في توصيلها حتى فرعون إمام العتو

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير