تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والظلم والتجبر قال لقومه: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر/29]

لقد أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم والبشرية آنذاك كأنها في حالة احتضار مما دهاها من أنواع الأمراض المزمنة التي تمكنت من جسدها، وتعفنت بسببها سائر أعضائها، وسرت سموم الفساد في أوصالها، وكادت تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن أصبحت لا تتنفس إلا في جو (الجاهلية) الموبوء الخانق، فبلغت بها الأدواء والآلام والضيق مبلغاً لا مزيد عليه، فلما شمرت عن ساقيها وتهيأت للتردي في الهاوية التي لا نهاية لها، ودارت أعينها من هول سكرات الغي والأهواء والخرافة والسخف والشطح التي طوقتها وخنقتها بل وتغلغلت في شرايينها وعروقها - نادى منادي الفلاح والصلاح والإصلاح وصاح في وجهها صيحة النذير العريان: النجاء النجاء، فأخذ بحُجزِها ليدفعها بقوةٍ ويبعدها عن حافة المهلكة التي أوشكت أن تتهاوى فيها، فأنقذها الله بالرحمة المهداة الذي قال عن نفسه ضارباً المثل لحاله مع المتجاوزين لرحمته، الرادين لدعوته، الصادين (من الصد والصدود) عن سبيله، مع حرصه عليهم، وشفقته بهم، واجتهاده في نصحهم -بأبي هو وأمي- (مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيتقحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها) متفق عليه.

ولن تجد لحقبة الجاهلية المظلمة الموبوءة أدق من وصف أحد الذين اكتووا بنارها واصطلوا بجحيمها وعاشوا وعايشوا أجواءها حيناً من الدهر كانت القلوب فيها غلفاً، والنفوس متوحشة، والعقول ضالة تائهةً- حتى ذاقوا حلاوة الإيمان وتطهرت قلوبهم ببرده الصافي، وارتشفوا من معينه النقي، فصقلت قلوبهم، وزكيت نفوسهم، ورشدت عقولهم، وتهذبت أخلاقهم، واستقامت حياتهم فعرفوا عندها ما كانوا عليه وما صاروا إليه كما قال جعفر بن أبي طالب وهو واقفٌ بين يدي النجاشي ملك الحبشة: (أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة ... إلخ.

وحريٌّ بحقبة صبغت وصبغ أهلها بهذه الموبقات والفواحش والشرور أن يلتصق بها وصف (الجاهلية) والذي يدل معناه على انقطاع أي أثر للعلمِ في توجيه حياة الناس وضبطها والسمو بها، لا في عقائدهم، ولا عباداتهم، ولا معاملاتهم، ولا أخلاقهم، ولا سلمهم ولا حربهم، وإنما مرد ذلك ومبعثه في الغالب هو (الظن وما تهوى الأنفس) والتواطؤ والتراضي والاستحسان والذي لا يكاد ينفك لحظة عن الأهواء وتأثيراتها وتقديم حظوظ النفوس وميولها ورغباتها والحرص على تلبية ذلك قدر الإمكان ولو كان على حساب اصطلاء المجتمع كله وتفحمه جراء جحيم الأهواء المستعر والمتدافع والذي لا يبقي للمجتمعات رحمةً ولا يذر وقد انتكست الفطر، وتحجرت القلوب، وغطى العقول ران الأعراف والعوائد والمألوف، وجمدها قفو آثار الآباء والأجداد فلا ترى النجاة إلا في اتباعها وتقليدها ولو كانوا أضل الضلال، وفي أحط الخبال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة/170]، وأطلق عِنانَ التوحشِ والاعتداءِ والظلمِ الجشعُ والطمعُ والأنانيةُ وحب العلو والحميةُ والعصبية الخرقاء: وما أَنا إلا من غزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإِن تَرْشُدْ غزِيَّةُ أَرْشُدِ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير