إن دلالة الأمة عند القشيري انطلاقاً مما ذهب إليه لهي بحق جماعة أهل الحقائق دون سواهم، إنهم أصفياء الله الداعون إلى الحق والقائمون عليه.
كما أن الأمة عنده في قوله تعالى:] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير [ـ الآية ([60]). هي الصفة الصافية من الأمة الإسلامية، فالأمة ههنا متمثلة في أولئك القوم الذين "قاموا بالله لله، لا تأخذهم لومة لائم، ولا تقطعهم عن الله استنامة إلى علة، وقفوا جملتهم على دلالات أمره، وقصروا أنفسهم واستغرقوا أعمارهم على تحصيل رضاه، عملوا لله، ونصحوا الدين لله، ودعوا خلق الله إلى الله، فربحت تجارتهم، وما خسرت صفقتهم" ([61]).
ومن الفيوضات الصوفية التي يعطيها الإمام القشيري للفظ الأمة في قوله تعالى:] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ـ الآية ([62])، قوله: "لما كان المصطفى صلوات الله عليه أشرف الأنبياء، كانت أمته ـ عليه السلام ـ خير الأمم، ولما كان خير الأمم كانوا أشرف الأمم، ولما كانوا أشرف الأمم، كانوا أشوق الأمم، فلما كانوا أشوق الأمم، كانت أعمارهم أقصر الأعمار، وخلقهم آخر الخلائق لئلا يطول مكثهم تحت الأرض، وما حصلت خيريتهم بكثرة صلواتهم وعباداتهم، ولكن بزيادة إقبالهم، وتخصيصه إياهم، ولقد طال المتقدمين بالباب ولكن لما خرج الإذن بالدخول تقدم المتأخرون:
وكم با سطين إلى وصلنا
أكفهم لم ينالوا نصيبا ([63])
أما تصوره للأمة في قوله تعالى:] وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون [([64])، فهي جماعة أولياء الله وأقطاب التصوف، وغياث الخلق، فلقد: "أجرى الحق ـ سبحانه ـ سنته بألا يخلي البسيطة من أهل لها هم الغياث، وبهم دوام الحق في الظهور، وفي معناه قالوا:
إذا لم يكن قطب
فمن ذا يديرها؟
فهدايتهم بالحق أنهم يدعون إلى الحق ويدلون على الحق، ويتحركون بالحق، ويسكنون للحق بالحق، وهم قائمون بالحق، يصرفهم الحق بالحق، أولئك هم غياث الخلق؛ بهم يسقون إذا قحطوا ويمطرون إذا أجدبوا، ويجابون إذا دعوا" ([65]).
فمن هذا الذي عرضناه، يتضح لنا أن لفظ الأمة عند الإمام القشيري، القصد منه الطائفة أو الجماعة الخيار من هذه الأمة الإسلامية، فهو يتصور الأمة ههنا على وجه الخصوص أنهم جماعة أولياء الله تعالى المنتمون إلى ولايته، فهم جماعة الأقطاب والغياث من الذين خصهم الله بعنايته وأثبتهم في الوثاق والمحبة والتوحيد، وهم أهل الضياء، واليقين، والوصلة، والألفة، والمعتكفون على البساط، المنتظرون الدخول إلى حضرته العلية.
خاتمة:
وفي آخر هذا المقام، لا نزعم أننا قد أتينا على جميع ما قاله أهل التفسير في تراثنا الإسلامي في شأن مفهومهم للأمة، ذلك أنه من الصعوبة بمكان أن نرصد جميع ما كان يخلد في أذهانهم عن تصورهم لهذا الموضوع؛ كما أننا لا نزعم أيضاً أننا جئنا على كل الآيات التي احتوت على هذا اللفظ المقصود بالدراسة. وما فعلناه لا يعتبر إلا اجتهاداً متواضعاً حاولنا فيه قدر الإمكان جمع بعض الشتات المتناثر في تفسيراتهم التراثية.
وإن جاز لنا أن نرصد لهذا العمل من نتائج، فإننا نجملها فيما يلي:
1 ـ إن فكرة الأمة نظراً لأهميتها، أخذت معاني مختلفة عبر التراث الإسلامي، وفي جميع جوانبه: اللغوية، والدينية، والتاريخية .. وهذا على الرغم من الإشكالات التي شهدها هذا المصطلح عبر تاريخ الفكر التراثي الإسلامي.
2 ـ من خلال هذا العرض، اتضح لنا، أن النص القرآني قد احتوى على لفظ (القوم)، إلا أنه لم يستأثر عناية أهل التفسير، وقد يكون لهذا الأمر من سبب، يمكن أن نرجعه بلا شك إلى أن لفظ (القوم) ورد ضمن الخطاب القرآني معبراً عن المحدودية المحجمة والقلة، وإن كثر القوم، بينما نجد لفظ (الأمة) يدل في كثير من آي القرآن العظيم على السعة والكثرة؛ فكأننا بلفظ الأمة يدل على الرباط الروحي والمتصف بالديمومة والأزلية غير المحدودة بزمان ولا بمكان، حتى بعد فناء الدنيا، بينما لفظ (القوم) رباطه مادي ويدل على المحدودية المنقطعة بمرور الزمن واندثار المكان.
¥