وعن مدلول لفظ الأمة في قوله تعالى:] ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات [ـ الآية ([47])، فإننا نجد كلاً من الرازي والقرطبي يتفقان في مدلولها، بذهابهما إلى القول بأن لفظ الأمة بمعنى الجماعة المتفقة على شريعة واحدة، ودين واحد لا اختلاف فيه، ولكن شاءت قدرته أن جعل الشرائع مختلفة، وذلك بقصد الابتلاء ([48]).
أما عن مدلول اللفظ في قوله تعالى:] وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون [([49])، فقد جاء بثلاثة معان عند القرطبي، وقد وافقه الرازي في معنى واحد، ذلك أن لفظ الأمة عند القرطبي، يعني أمة محمد e؛ كما يحملها معنى النفر الذين آمنوا بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب. هذا بالإضافة إلى معنى آخر يضيفه، وهو أن لفظ الأمة القصد منه قوم من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه، ولم يبدلوا ولم يقتلوا الأنبياء ([50]).
ومن الأسباب التي جعلت إبراهيم عليه السلام يتصف بكونه أمة واحدة في قوله تعالى:] إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين [([51])، نلفي الرازي يدلل ذلك بمايلي:
أولها: إنه كان أمة وحده لكماله في صفات الخير كقوله:
وليس على الله بمستكثر
أن يجمع العالم في واحد
ثانيها: قال مجاهد، كان مؤمناً وحده، والناس كلهم كانوا كفاراً، فلهذا المعنى كان وحده أمة.
ثالثها: أن يكون أمة فَعَلة، بمعنى مفعول كالرحلة والبغية، فالأمة هو الذي يؤتم به، ودليله قوله:] إني جاعلك للناس إماما [.
رابعاً: أنه عليه السلام، هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحد والدين الحق ولما جرى مجرى السبب لحصول الأمة، سماه الله تعالى بالأمة، إطلاقاً لاسم المسبب على السبب ([52]).
ومما تقدم ذكره، في شأن تصور الأمة لدى أهل التفسير بالرأي والاجتهاد، فإنهم بوجه عام، قد أوَّلوا [بفتح الواو الأولى] التأويل نفسه الذي ذهب إليه أهل التفسير بالمأثور ـ على الرغم من تلك المقاربة العقلية من لدن أهل التفسير بالرأي ـ فكانت مفاهيمهم للفظ (الأمة) من خلال ما عرضناه من آي القرآن العظيم، تدور في معظمها حول معنى الجماعة المرتبطة بدين أو ملة، سواء كان ديناً أو ملة أو شريعة مطلقاً، أو خاصاً بالدين الإسلامي؛ كما وجدنا الأمة عندهم، إما خاصة بجماعة الإجابة أو خاصة بجماعة الدعوة عموماً.
تصور الأمة عند أهل التفسير الصوفي:
مما لاشك فيه أن الذين اهتموا بالتفسير الصوفي أو ما يسمى بالتفسير الإشاري، هم المتصوفة بالمقام الأول، إذ ذهبوا في تفسيراتهم باعتماد فيوضاتهم وتباريحهم وإلهاماتهم .. فراحوا بذلك يؤَولون [بفتح الهمزة] بعض ما يتعرضون إليه من آي الذكر الحكيم، بعيداً عما يحمله اللفظ من تأويلات أقرها النقل والعقل، وذلك في الكثير من المواضع. وعلى ذلك فإن علماء الدين، فريق منهم من قبل بهذا التفسير وذلك بشروط ([53]). وأنا أحسب أن تلك الشروط يمكن أن تكون قد توافرت إلى حد ما في نوع التفسير الذي اخترناه نموذجاً لهذه الدراسة، وهو تفسير القشيري، والمعروف بـ (لطائف الإشارات).
يعلق الإمام القشيري على الآية الكريمة:] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [([54])، بخطابه للأمة المقصودة في الآية بقوله: حالت بينكم وبينهم حواجز من القسمة؛ فهم على الفرقة والغفلة أسسوا بنيانهم، وأنتم على الزلفة والوصلة ([55]) ضربتم خيامكم وعتيق فضلنا لا يشبه طريد قهرنا" ([56]).
وعن قوله تعالى:] وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ـ الآية ([57])، نترك القشيري وحده يعبر عن قصده من دلالة الأمة المراد في هذه الآية الكريمة، يقول القشيري: "فجعل هذه الأمة خيار الأمم، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة، فهم خيار الخيار فكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم في القيامة، فهذه الطائفة هم الأًول وعليهم المدار، وهم القطب ([58]) وبهم يحفظ الله جميع الأمة، وكل من قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردته قلوبهم فهو المردود، الحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم، عصم جميع الأمة عن الاجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة عن الخطأ في النظر والحكم، والقبول والرد" ([59]).
¥