«ولم يجعل له عوجاً، ولكن جعله قيماً، وعقب أبو حيان على ذلك بقوله: «ويحمل ذلك على تفسير المعنى، لا أنها قراءة». وذكر الشنقيطي اختلاف علماء العربية في إعرابه، ثم قال: «وأقرب أوجه الإعراب: أنه منصوب بمحذوف، أو حال ذاتية من الكتاب». وكونه حالاً ثانية هو الأقرب إلى الصواب، والله اعلم .. وروي عن حفص أنه كان يسكت على قوله: «عوجاً» سكتة خفيفة، ثم يقرأ: «قيماً».
ويذكر علماء اللغة أن «العِوج» بكسر العين يكون في المعاني كالعوج في الدين والعقل، فإذا كان في الأعيان، جاء بفتح العين. وأما قوله تعالى: «لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً»، مع كون الجبال من الأعيان فللدلالة على انتقاء ما لا يدرك بحاسة البصر، بل إنما يوقف عليه بوساطة استعمال المقاييس الهندسية، ولما كان ذلك مما لا يشعر به بالمشاعر الظاهرة، عدَّ من قبيل ما في المعاني. فتأمل ذلك!!
محمد إسماعيل عتوك
جميع الحقوق محفوظة - مؤسسة دبي للإعلام© 2005
من إعجاز القرآن
استعمال صفتين لموصوف واحد
قال الله تعالى حكاية عن اليهود:1ـ «وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون» (البقرة 80).2ـ «ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون» (آل عمران 34).
ولسائل أن يسأل: لم وصفوا (الأيام) في الآية الأولى، بقولهم: (معدودة) بصيغة المفردة المؤنثة، وفي الآية الثانية بقولهم: (معدودات) بصيغة جمع الإناث، والموصوف في الآيتين واحد؟ وهل بين الصفتين من فرق في المعنى؟ ولم عبروا عن عذابهم في النار بالمس دون اللمس؟
وأجاب جمهور المفسرين عن السؤال الأول والثاني بان الأصل في جمع التكسير، إذا كان واحده مذكرا، أن يقتصر في وصفه على الواحدة المؤنثة، نحو قوله تعالى: «فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة» (الغاشية 13ـ 16).
ثم قالوا: وقد تأتي هذه الصفة مجموعة بالألف والتاء، فيقال سرر مرفوعات، وأكواب موضوعات، ونمارق مصفوفات، وزرابي مبثوثات، إلا أن ذلك ليس بالأصل فجيء بها في البقرة على الأصل، وفي آل عمران على الفرع.
وعلل ابن جماعة لذلك بقوله: «لان قائل ذلك فرقتان من اليهود: إحداهما: قالت: إنما نعذب بالنار سبعة أيام، عدد أيام الدنيا والأخرى قالت: إنما تعذب عدة أيام عبادة آبائهم العجل، ثم قال «فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية، حيث عبر بجمع الكثرة، وآية آل عمران تحتمل قصد الفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة» ومراده بجمع الكثرة: الأيام وبجمع القلة: معدودات.
وذكر الألوسي في الآية الثانية أن ذلك من باب التفنن في القول ثم قال: «وخص الجمع ـ هنا ـ لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفة، وذلك أليق بمقام التعجب، والتشنيع»
وأجاب احدهم عن ذلك بان (معدودة) يراد بها: العدد الكثير أما (معدودات) فيراد بها: العدد القليل.
والصحيح الذي عليه علماء اللغة والتفسير أن معنى كل من (معدودة)، و (معدودات): قلائل، يحصرها العد. اقلها ثلاثة، وأكثرها أربعون، وان المراد بالأيام. الأيام التي عبد اليهود فيها العجل، وان اليهود طائفة واحدة، لا طائفتين.
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: «ويتجوز بالعدد على أوجه. يقال: شيء معدود ومحصور للقليل مقابلة لما لا يحصى كثرة وعلى ذلك: «أياما معدودة» أي قليلة لأنهم قالوا: نعذب الأيام التي عبدنا فيها العجل» وقال الفخر الرازي: «قيل في معنى (معدودة): قليلة كقوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) والله اعلم.
وفي تفسير (دراهم معدودة) قال الزمخشري: «تعد عدا، ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية، وهي الأربعون ويعدون ما دونها» ثم علل لذلك بقوله: «وقيل للقليلة: معدودة لان الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها».
فثبت بذلك أن معنى معدودة: قليلة، أو قلائل .. وكذلك معدودات لأنها جمع قلة، ولكن يبقى بينهما فرق لابد أن يراعى وهو: أن معدودة تدل على عدد غير معين. أما معدودات فتدل على عدد معين.
والدليل على ذلك ما حكاه أبو حيان عن بعضهم في تفسير معدودة من قوله: «أي قلائل يحصرها العد لا أنها معينة العد في نفسها» ومثلها في ذلك قوله تعالى: «وشروه بثمن بخس دراهم معدودة» (يوسف 20).
ولهذا اختلفوا في تحديد عدد الأيام المعدودة والدراهم المعدودة، قال الزجاج في الأولى: «قيل في عددها سبعة أيام، وقيل: أربعون يوما» وقال في الثانية: «جاء في التفسير: انه بيع بعشرين درهما وقيل: باثنين وعشرين درهما اخذ كل واحد من إخوته درهمين وقيل: بأربعين درهما».
فثبت بذلك أن (معدودة) تدل على عدد غير معين. أما (معدودات) فتدل على عدد معين والى هذا ذهب بعض المفسرين وذكره الزمخشري في تفسير قوله تعالى: «أياما معدودات» (البقرة 184) فقال: معدودات: مؤقتات بعدد معلوم وتابعه في ذلك الفخر الرازي والدليل عليه أن المراد بالأيام المعدودات في آية البقرة: أيام شهر رمضان.
ومثل ذلك قوله تعالى: «واذكروا الله في أيام معدودات» (البقرة 203) «ويذكروا الله في أيام معلومات» (الحج 28) فالمعدودات: هي ثلاثة أيام بعد النحر. والمعلومات: عشر ذي الحجة، وعند بعض الفقهاء: المعدودات: يوم النحر، ويومان بعده. فعلى هذا يكون يوم النحر من المعدودات والمعلومات.
بقي أن تعلم أن وصف اليهود لهذه الأيام بأنها (معدودة) مرة وأنها (معدودات) مرة أخرى ـ وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل ـ دليل على كذب قولهم، واضطراب نفوسهم وفساد معتقدهم لأنهم لم يثبتوا على قول واحد، وبهذا يظهر لك سر الإعجاز القرآني في استعمال هاتين الصفتين لموصوف واحد، فتأمل عظمة هذا القرآن العظيم!
ثالثا: أما السؤال الثالث فيجاب عنه بان المس في اللغة كاللمس، إلا أن المس يدل على اتصال الشيء بالبشرة بحيث تتأثر الحاسة به. أما اللمس فهو إدراك بظاهر البشرة ويعبر به عن طلب الشيء ولذلك يقال: ألمسه، فلا أجده .. ومن الفروق بينهما أيضا: أن المس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى بخلاف اللمس. وتأمله في القرآن تجده على ما ذكرنا، إن شاء الله تعالى .. ، فسبحان الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان!!
محمد إسماعيل عتوك
¥