وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليم، ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة، وهي التي قال فيها: وكتب موسى هذه السورة وعلمها بني إسرائيل.
هذا نص التوراة عندهم قال: وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل.
وفيها: قال الله تعالى: إن هذه السورة لا تنس من أفواه أولادهم.
يعني أن هذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويسبون في البلاد. فهذه السورة تكون متداولة في أفواههم، كالشاهد عليهم، الموقف لهم على صحة ما قيل لهم.
فلما نصت التوراة أن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، دل ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن ينسى من أفواههم.
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة. فأما بقيتها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عمن سواهم.
وهؤلاء الأئمة الهارونيون - الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها - قتلهم بختنصر على دم واحد، يوم فتح بيت المقدس. ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم، ولا سنة. بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة.
فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم جمع من محفوظاته، ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة.
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره، وهو عند بطائح العراق. لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم.
وغلا بعضهم فيه حتى قال: هو ابن الله. ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلا اليهود، إلى جنسهم، لا إلى كل واحد منهم.
فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عزرا. وفيها كثير من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام. ثم تداولتها أمة قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وشتت شملها فلحقها ثلاثة أمور.
أحدها: بعض الزيادة والنقصان.
الثاني: اختلاف الترجمة.
الثالث: اختلاف التأويل والتفسير.
ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال .... )
أما المسألة الثانية؛ فلا أعتقد أن مقصد القرطبي أنهم كفروا فحكموا بغير ما أنزل الله؛ لأن هذا لا يتفق مع أسلوب الشرط والجزاء الذي جاءت به الآية، فالحكم بالكفر جواب للشرط، الذي هو الحكم بغير ما أنزل الله.
ولي رجاء أخي أبا عبد المعز، وهو أن تقرأ ما كتبتُه كاملاً قراءة متأنية؛ لأني قد بذلت جهدي في تحرير هذه المسألة، وخلصت إلى النتيجة السابقة بعد عناء. ومع ذلك فإن كل قول لا يخلو من بعض الإشكالات التي قد ترد عليه - وقد ذكرت ذلك في نتيجة الدراسة -.
ـ[أبو صلاح الدين]ــــــــ[09 Jul 2005, 04:00 م]ـ
أولا: بارك الله فيكم, وفي تحليلاتكم وفي مجهودكم. لقد ظهر من خلال عملكم في هذا البحث مدى المنهجية التي تتمتعون بها, ومدى قوة البحث العلمي الأكاديمي الرصين الذي يدل على غزارة علم وسعة اطلاع. بارك الله فيك, وجعلك زخرا للإسلام.
ثانيا: الإشكالات والتردد في قضية التكفير عند كثير من الناس والباحثين يقطعه ما سوف أقوله الآن بإذن الله:
((((هناك فرق كبير جدا وواضح وضوح الشمس في كبد السماء بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم, وبين مجرد ورود العام على سبب, فإنه لا يقتضي التخصيص.))))
تأمل أخي هذه العبارة جيدا, فهي مهمة جدا وخطيرة, تفصل النزاع في الكثير والكثير من القضايا. مثلا قضية الصوم في السفر, وحديث (ليس من البر الصيام في السفر) ليس على عمومه وإطلاقه هكذا, بل اقرأ –لزاما, وقبل أن تكمل تعليقي هذا- سبب ورود الحديث, ثم طبق عليه ما ذكرته أنا في أول كلامي. ثم طبق ذلك على ما نحن فيه من قضية التكفير ....
إليك هذا ليكتمل المراد: سبب نزول الآية فقد جاء عند مسلم (كتاب الحدود) ما يبين حال من نزلت فيهم الذين قالوا " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ", إليك الحديث:
¥