ثانيًا- وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. واتل من التلاوة، وهي القراءة. والنبأ هو الخبر المرويُّ. أو القصة المطلوب تلاوتها عليهم.
وشأن القصص المفتتحة بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله تعالى بعد ذلك: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
ويحصل من ذلك- أيضًا- تعليم مثل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} (يونس:71)، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} (الشعراء:69)، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} (المائدة:27)، وقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} (الكهف:27).
ونظائر ذلك كثير. فالضمير في {عَلَيْهِمْ} عائد على حاضري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار وغيرهم من المشركين، الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم.
ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قومًا تغلب عليهم الأمية، فأراد الله تعالى أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة، فالضمير المجرور بـ (على) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون، وغيرهم.
والمراد بقوله تعالى {آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا}: علمناه حجج التوحيد، وفهمناه أدلته، حتى صار عالماً بها .. والإيتاء هنا مستعار للإطْلاَع وتيسير العلم.
وتأمل قوله تعالى: {آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا}، فأخبر سبحانه أن ذلك؛ إنما حصل له بإيتاء الرب له، لا بتحصيله هو. وقال تعالى: {آَتَيْنَاهُ}، ولم يقل: (أعطيناه)، لما في الإيتاء من سرعة الإعطاء، وسهولته؛ كما في قوله تعالى: {وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة:251)، وقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف:84).
وقوله تعالى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. الانسلاخ من الشيء عبارة عن البراءة منه، والانفصال والبعد عنه؛ كالانسلاخ من الثياب والجلد. ويقال لكل من نبذ شيئًا، وكفر به، وفارقه بالكلية: انسلخ منه.
وحقيقة الانسلاخ هي خروج جسد الحيوان من جلده، حينما يُسلخ عنه جلده. يقال: انسلخت الحية من جلدها، إذا خرجت منه، واستعير في الآية للانفصال المعنوي، وهو ترك التلبس بالشيء، أو عدم العمل به.
وقوله تعالى: {انْسَلَخَ مِنْهَا} يدل على أنه كان فيها، ثم خرج منها. والتعبير عن ذلك بالانسلاخ، المنبىء عن اتصال المحيط بالمحاط خلقة، وعن عدم الملاقاة بينهما أبدًا، للإيذان بكمال مباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمال الاتصال.
وقيل: معنى الانسلاخ عن الآيات: الإقلاع عن العمل بما تقتضيه؛ وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية ومع ذلك فقد انسلخ منها؛ كما ينسلخ الإنسان، أو الحيوان من جلده، فخرج بذلك من محبة الله إلى معصيته، ومن رحمة الله إلى سخطه، ونزع منه العلم، الذي كان يعلمه.
وفي الجامع الكبير (2/ 469) للسيوطي:” عن النبي صلى الله عليه وسلم: العلم علمان: علم في القلب؛ فذلك العلم النافع. وعلم على اللسان؛ فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم“. فهذا مثل علم هذا الإنسان وأشباهه، نعوذ بالله منه، ونسأله التوفيق.
وتأمل كيف قال تعالى: {فانسلخ منها}، ولم يقل: (فسلخناه)؛ بل أضاف الانسلاخ إليه، وعبَّر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ، الدالة على تخليه عنها بالكلية، وهذا شأن الكافر. وأما المؤمن، ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه، فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية.
وقال تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}، ولم يقل: (فتَبِعَهُ)؛ فإن في {أتْبَعَهُ} إعلامًا بأنه أدركه ولحقه؛ كما قال الله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} (الشعراء:60). أي: لحقوهم ووصلوا إليهم. وكذلك قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} (الحجر:18)، وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} (يونس:90).
¥