وقرأ الحسن- فيما روى عنه هارون-: {فَاتَّبَعَهُ}، بصلة الألف، وتشديد التاء، وكذلك طلحة بن مصرف بخلاف، وكذلك الخلاف عن الحسن، على معنى: لازمه. اتبعه بالإغواء؛ حتى أغواه.
وقوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}. أي: كان من المتصفين بالغي؛ وهو الضلال، وهو أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال: وغوى، أو كان غاويًا. وإنما كان قوله تعالى: {مِنَ الْغَاوِينَ} أشدَّ مبالغة من قولك: فلان كان غاويًا؛ لأنَّه يشهد له بكونه معدودًا في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في الغواية.
والغي والغواية هي الضلال، كأنه خروج من الطريق للقصور عن حفظ المقصد، الذي يوصل إليه الطريق؛ ففيه نسيان المقصد والغاية. فالمتحير في أمره، وهو في الطريق غوي، والخارج عن الطريق، وهو ذاكر لمقصده ضال، وهو الأنسب لمورد الآية؛ فإن صاحب النبأ بعد ما انسلخ عن آيات الله وأتبعه الشيطان، غاب عنه سبيل الرشد، فلم يقوَ على إنجاء نفسه من ورطة الهلاك.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:” إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن“ .. فإن الغي والضلال يجمع جميع سيئات بني آدم فإن الإنسان كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب:72)، فبظلمه يكون غاويًا، وبجهله يكون ضالاً. وكثيرًا ما يجمع بين الأمرين، فيكون ضالاً في شيء، غاويًا في شيء آخر؛ إذ هو ظلوم جهول، ويعاقب على كل من الذنبين بالآخر؛ كما قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (البقرة:10)؛ وكما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصف:5).
وجاء ترتُّب أفعال الانسلاخ، والإتباع، والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول؛ فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه، حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه، وإدامة إضلاله، فكان الانسلاخ عن الآيات أثرًا من وسوسة الشيطان له. وإذا أطاع المرء الوسوسة، تمكن الشيطان من مقاده، فسخره وأدام إضلاله، وهو المعبر عنه بـ {أَتْبَعَهُ}، فصار بذلك من زُمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان من المهتدين.
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم؛ وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله تعالى: فان هذا الإنسان كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه.
والرافع هو الله تعالى، يرفع عبده، إذا شاء، بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله، فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسًا. وذلك منوط بمشيئة الله تعالى، والله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه، وأقبل إلى غيره؛ لأن الإعراض عن الله سبحانه، وتكذيب آياته ظلم، وقد حق القول منه سبحانه أنه {لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:258).
ولذلك عقب تعالى على قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} بقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}، فأخبر عن السبب، الذي منعه أن يرفع بهذه الآيات.
وقوله: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}. أي: سكن إليها، ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضية سفلية، لا سماوية علوية، وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض، يهبط من السماء. وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} معناه: أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات، وانقاد لما دعاه إليه الهوى.
والمعنى: لكنا لم نشأ ذلك؛ لأنه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فبات في قلق دائم، وانشغل بالدنيا وأعراضها، وكان ذلك موردًا لإضلالنا، لا لهدايتنا كما قال تعالى: {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم:27).
وأصل الإخلاد من الخلود، وهو الدوام والبقاء. يقال: فلان أخلد، ولاذ بالمكان، إذا أقام فيه مع الاطمئنان به، ظانًّا أنه مخلد فيه. ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} (الواقعة:17). أي: قد خلقوا للبقاء؛ لذلك لا يتغيرون، ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدًا.
¥