وإعادة {الْقَوْمُ} موصوفًا بالموصول مع كفاية الضمير، بأن يقال: ساء مثلا مثلهم، للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة، ولربط قوله تعالى: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} به؛ فإنه إما معطوف على {كَذَّبُواْ} داخل معه في حكم الصلة بمعنى: جمعوا بين تكذيب آيات الله بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها، وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة. أو منقطع عنه بمعنى: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم؛ فإن وباله لا يتخطاها .. وأيًّا ما كان، ففي {يَظْلِمُونَ} لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم، وأن ذلك أيضًا معتبر في القصر المستفاد من تقديم المفعول.
وقيل: الظلم- هنا- على حقيقته، فإنهم ظلموا أنفسهم بما أحلَّوْه بها من الكفر، الذي جعلهم مذمومين في الدنيا، ومعذبين في الآخرة. وتقديم المفعول للاختصاص. أي: ما ظلموا إلا أنفسهم، وشأن العاقل أن لا يؤذي نفسه. وفيه إزالة تبجحهم بأنهم لم يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أن ذلك يغيظه ويغيظ المسلمين، وإنما يضُرون أنفسهم. وقوله: {كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أقوى في إفادة وصفهم بالظلم من أن يقال: وظلموا أنفسهم.
وعقَّب الله تعالى في ختام هذه الآيات على ما ذكر فيها من ذلك المثل الشاخص أمام العيون في ذلك المشهد المحسوس لذلك الخسيس، الذي آتاه الله تعالى آياته، فانسلخ منها، وما تلاه من وصف حال المشركين المكذبين، فقال سبحانه:
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
فقرَّر بذلك- على سبيل الحصر- أن من يهده الله فهو المهتدي حقًّا، ومن يضله الله فهو الخاسر حقًّا. وزيد في جانب الخاسرين الفصل باسم الإشارة {َأُولَئِكَ} لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران، تحذيرًا منه. وإفراد {الْمُهْتَدِي} رعاية للفظ {مَنْ} الشرطيه، وجمع {الْخَاسِرينَ} رعاية لمعناها، وإيذانًا بأن الحق واحد، وطرق الضلال متشعبة. وقد عُلم من مقابلة الهداية بالإضلال، ومقابلة المهتدي بالخاسر أن المهتدي بمشيئة الله سبحانه هو فائز رابح.
وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله سبحانه وتعالى، خلافًا لما عليه المعتزلة. وقد أخبر الله تعالى أنه لا يهدي من عباده إلا من أراد الهدى لنفسه، وجاهد من أجله؛ كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).
كذلك أخبر سبحانه أنه لا يضل إلا من أراد الضلال لنفسه، وأعرض عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان, وأغلق قلبه وسمعه وبصره دونها؛ وذلك كما جاء في الآية التالية لهذه الآية الكريمة:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179).
وكما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} (النساء:168 - 169).
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}، ولا تجعلنا- من {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.
محمد إسماعيل عتوك