كالكلب إن تحمل عليـ ــه الدهرَ، أو تتركه يلهث
والمقصود منه في الآية الكريمة بيان أن من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى، ومال إلى الدنيا، حتى تلاعب به الشيطان، كان منتهاه إلى الهلاك والردى، وخاب في الآخرة والأولى. فهذا هو حال العالم الذي يؤثر الدنيا علي الآخرة، والله تعالى ذكر قصته؛ ليحذر الناس عن مثل حالته.
رابعًا- قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} إشارة إلى قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}. أي: ذلك المثل السَّيِّء مثل القوم، الذين كذبوا بآياتنا.
قال ابن عباس: يريد أهل مكة، كانوا يتمنون هاديًا يهديهم، وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله، ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه، فحصل التمثيل بينهم، وبين الكلب، الذي إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث؛ لأنهم لم يهتدوا لما تركوا، ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول، فبقوا على الضلال في كل الأحوال، مثل هذا الكلب، الذي بقي على اللهث في كل الأحوال.
وقيل: هم اليهود؛ حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر القرآن المعجزة وما فيه، فصدقوه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (البقرة:89)، وانسلخوا من حكم التوراة.
والظاهر أن المراد بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} العموم، فيعم جميع المكذبين بآيات الله سبحانه، ويدخل اليهود، وأهل مكة في ذلك دخولاً أوليًّا.
وفُرِّع على ذلك الأمرُ بقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. والقصص مصدر سمي به المفعول، واللام للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. أي: إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين، فاقصصه عليهم حسبما أوحي إليك، لعلهم يتفكرون، فيقفون على جلية الحال، وينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال، ويعلمون أنك قد علمته من جهة الوحي، فيتعظون، ويؤمنون. فإن في القصص تفكُّرًا، وموعظة، وأن للأمثال واستحضار النظائر شانًا عظيمًا في اهتداء النفوس بها، وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة، لمَا في التمثيل بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس، بخلاف التذكير المجرد عن التمثيل بالشيء المحسوس.
وقوله تعالى: {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} استئناف بياني؛ لأنه جعِل إنشاء ذمٍّ لهم، بأن كانوا في حالة شنيعة، وظلموا أنفسهم، بتكذيبهم بآيات الله تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أن التكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة، فلا تزال آيات الله تعالى تتكرر على حواسهم، ويتكرر التكذيب بها منهم. وفيه- أيضًا- إعلام لهم بأنهم لا يضرون شيئًا في هذا التكذيب؛ بل ذلك ظلم منهم لأنفسهم.
و {سَاء} بمعنى: قبُح، وتجري في الاستعمال مجرى (بئس). والتقدير: ساء مثلاً مثل القوم؛ لأن الذي بعد (بئس) إنما يتفسر من نوعه؛ كما تقول: بئس رجلاًَ زيد. ولما انحذف مثلُ، أقيم القوم مقامه، وأصبح هو المخصوص بالذم. ورفعه في ذلك على الابتداء، والخبر فيما تقدم.
وقرأ الجحدري: {سَاء مَثَلُ الْقَوْمُ}، برفع (مثل). وقال أبو عمرو الداني: قرأ الجحدري: (مِثْلُ) بكسر الميم ورفع اللام، وقرأ الأعمش: (مَثَلُ) بفتح الميم والثاء ورفع اللام. ورفعه على ذلك بـ (سَاء). وعليه تكون (ساء) للتعجب؛ لأن (سَاء) لا تجري مجرى (بئس)؛ إلا إذا كان ما بعدها منصوبًا.
¥