الثاني: أني لا أنكر أنه يوجد من يستطيع حفظ القرآن في شهرين أو نحو ذلك، ويكون قادراً على مراجعته وضبطه، وقد ذُكر أن العلامة الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري [ت: 1399] قد حفظ القرآن في شهرين،وذلك حينما اشتكى عينيه، وخشي ذهاب بصره، ورأيت من الطلاب من عنده القدرة الفائقة على الحفظ والاستذكار في مدة وجيزة، ولكن هذا أمر نادر، والملاحظ أن هذه الدورات مفتوحة للجميع رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، بل إن التسجيل في بعضها يتم عن طريق شبكة المعلومات الإنترنت، وهي وإن كانت تضع شروطاً للقبول؛ فإنها غير كافية، ثم إن هذه الشروط كثيراً ما يتساهل فيها لسبب من الأسباب، لا سيما مع كثرة هذه الدورات، والاهتمام بالكم.
وإليكم أهم تلك الملحوظات:
1 ـ عدم إتقان الحفظ، فإن من المعلوم شرعاً وتجربةً أن القرآن سريع التفلت، ولا سيما الحفظ الجديد، فهو يحتاج إلى تكرار كثير، ووقت طويل حتى يثبت، وهذا لا يمكن أن يكون في شهر أو شهرين، مع أن الطالب في هذه الدورات مشغول بالحفظ الجديد الذي يستغرق جلّ وقته، ولا سيما بعد زيادة المحفوظ، وأنا أعلم أن هناك برامج للمراجعة في هذه الدورات، ولكنها غير كافية، ثم إنه يصعب على الطلاب تطبيقها والوفاء بها، ولذلك وجدنا كثيراً من طلاب وطالبات هذه الدورات احتاجوا إلى حفظ بعض الأجزاء من جديد مرةً أخرى، وبذلوا من الجهد والوقت في مراجعة بعضها ما يقارب الجهد والوقت الذي يبذل في المحفوظ الجديد، ومنهم من ضعف وعجز فتبخر حفظه، والخلاصة أنهم لم يصلوا إلى مرحلة الضبط التام إلا بعد سنتين أو أكثر من بداية حفظهم.
2 ـ عدم إتقان التلاوة. يقع للطلاب أثناء الحفظ بعضُ اللحون على تفاوت بينهم في ذلك، ويقوم المدرس بتصحيح هذه اللحون، ولكنْ مع كثرة المحفوظ وتتابعه يصعب على الطالب التخلص منها تماماً لا سيما إذا حفظ على غلط، وقد رأيت بعض طلاب هذه الدورات يقعون في لحون جلية غير قليلة.
3 ـ أن الحفظ في هذه الدورات مكثّف جداً، ويحتاج إلى مجهود ذهني وبدني كبير حتى إن بعض الطلاب لا يستطيع المواصلة، وما أن تنتهي الدورة حتى يتنفس الطالب الصُعداء، ولذلك يحتاج إلى فترة استجمام طويلة، ويعتريه فتور كبير ونُفْرَةٌ عن المراجعة، وهذه الفترة قد تكون كفيلةً بضياع المحفوظ أو بعضه.
4 ـ الحفظ المكثف يُفقد الطالب عدداً من الأمور المهمة، كمعرفة أوائل وأواخر الأجزاء والأحزاب، وترتيب السور، ومواضع السجود والوقوف، والتمييز بين الآيات المتشابهة ونحو ذلك.
5 ـ لم تكن هذه الطريقة معروفة عند السلف مع حرصهم على الخير، وقوة حافظتهم، وعلو همتهم، وحسن إسلامهم، وقد ذكر الإمام ابن الجزري أنهم كانوا يُقرئون ثلاثاً ثلاثاً، وخمساً خمساً، وعشراً عشراً، لا يزيدون على ذلك، وهذا في حالة التلقين أو الحفظ الجديد، أمّا في مقام العرض، والتصحيح فلا حرج في الزيادة إلى ما شاء ([1]).
وعن أبي نُضرة: قال كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات،خمس آيات. ([2])
وعن أبي العالية: قال قال عمر - رضي الله عنه-: " تعلموا القرآن خمساً خمساً آيات؛ فإن جبريل نزل بالقرآن على النبي r خمساً خمساً " ([3]).
وعن إسماعيل: قال: كان أبو عبد الرحمن يعلمنا خمساً خمساً. ([4])
و عن علي بن بكار الزاهد قال: " قال بعض أهل العلم: من تعلم خمساً خمساً لم ينسه " ([5]).
وعن إسحاق بن عيسى قال: سمعت مالكاً يوم عاب العَجَلة في الأمور قال: " قرأ عبدالله بن عمر البقرة في ثمان سنين " ([6]).
فعلى من أراد الحفظ والإتقان، والفهم والتحصيل، أن يراعي سنّة التدرج، وأن يترفّق بنفسه، ويقتصر على ما يمكنه إدراكه واستعيابه؛ فإنه بذلك يحصِّل علوماً كثيرة جداً مع راحة نفسه وعدم إملاله، ([7]).
وأنا لست مع من يقول: احفظ في كل يوم آية، وداوم على ذلك، بل ينبغي للطالب أن يستغل وقت الشباب والفراغ، ويجد ويجتهد، ولكنْ لا يرهق نفسه، ويشتت ذهنه، ويتحمل فوق طاقته.
¥