تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال الخطيب البغدادي: وينبغي أن يجعل لنفسه مقداراً كلما بلغه وقف وقفتَه أياماً لا يزيد تعلُّماً، فإن ذلك بمنزلة البُنيان، ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء بنى أذرعاً، ثم ترك حتى يستقر، ثم يبني فوقه؟ ولو بنى البناءَ كله في يوم واحد، لم يكن بالذي يُستجادُ، وربما انهدم بسرعة. . . فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حدَّاً كلما انتهى إليه وقف عنده حتى يستقرَّ ما في قلبه، فإذا اشتهى التعلُّم بنشاط عاد إليه، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرِضْ له ([8]). وقال ابن الجوزي: وينبغي أن يريح نفسه من الحفظ في الأسبوع يوماً أو يومين ليكون كذلك كالبناء الذي يُراح ليستقر ([9]). وقد ذكر العلماء أن من حكمة نزول القرآن منجماً تيسير حفظه ([10]).

6 ـ قد يُصاب الطالب بالغرور حينما يحفظ القرآن في هذه المدة الوجيزة، ويتعالى على أقرانه، وربما تصدر، وبدأ بحفظ متون أخرى، وهو لم يضبط ما حفظ فيكتشف فيما بعد أنه كالمنبت، لم يتقن القرآن، ولم يتمكن من العلوم الأخرى. والعلم الشرعي لا ينال إلا بالصبر والدأَب، وطول الزمان. نَعَمْ: الجد، واستغلال الوقت، وانتهاز الفرص، والتنافس في التحصيل مطلوب ومحمود، ولكن لا ينبغي أن يتحول العلم إلى وجبات سريعة يأخذه العجلان في فترات قصيرة متقطعة.

7 ـ من المعلوم شرعاً ونظراً أنه لا يكفي حفظ ألفاظ القرآن، بل لا بد من تدبر آياته وفهم معانيه والعمل بما فيه، والتخلق بأخلاقه، والتحلي بآدابه، ولا شك أن بقاء الطالب مع الأستاذ سنتين أو ثلاثاً له أثر كبير على دينه وأخلاقه، لا سيما وأن أكثر الطلاب يحفظون القرآن في مرحلة المراهقة، وهي مرحلة حساسة كما هو معلوم.

8 ـ قد تكون هذه الدورات سبباً في تسرب الطلاب من بعض حلق التحفيظ طمعاً في سرعة الحفظ، وهذا له أثر سلبي عليهم وعلى بقية زملائهم.

9 ـ أكثر هذه الدورات تحتاج إلى تكاليف باهضة تنفق على الإسكان والإعاشة والجوائز ورواتب المدرسين والعاملين فيها، وهذه المصروفات لا تتناسب مع المُخْرَجَات إطلاقاً، ولو صُرفت في مشاريع قرآنية أخرى دائمة لكان أوْلى بلا شك، فإن تكلفة يعض هذه الدورات تكفي لتشغيل دار نسائية أو مدرسة تحفيظ للبنين لعدة سنوات.

وبعد، فقد يقول قائل: إن هذه الملحوظات أو بعضها موجودة عند الحفاظ في غير هذه الدورات، وهذا صحيح، ولكنْ هناك فروق كثيرة بين الحالين وذلك من وجوه:

1 ـ أن وجوه هذه الملحوظات في غير الدورات المكثفة ليس راجعاً إلى كثافة الحفظ أو قصر المدة، ولكن إلى أسباب أخرى يمكن معالجتها بسهولة.

2 ـ أن حلق التحفيظ مفتوحة للجميع يدخلها القوي والضعيف، الراغب وغير الراغب، ولها أهداف علمية وتربوية متعددة أحدها حفظ القرآن، ولو لم يحصل منها إلا ارتباط الطالب بالمسجد والجلساء الصالحين لكفى، بخلاف هذه الدورات المكثفة، فإنه لا يدخلها في الغالب إلى الجاد الحريص على الحفظ، وهذا يمكن أن يسلم من هذه الملحوظات إذا وضع له برنامج زمني مناسب.

3 ـ يمكن تشخيص هذه الأدواء ومعالجتها في برامج الحفظ الطويلة، أما في الدورات المكثفة، فإن هذه المزالق قد لا تتبين إلا بعد انتهاء الدورة، وإن أمكن معرفتها أثناء الدورة لم يمكن معالجتها لقصر المدة.

وفي الختام أقول إن إيراد هذه الملحوظات على الدورات المكثفة لحفظ القرآن في وضعها الحالي لا يعني بحال الدعوة إلى إلغائها وقعود القائمين عليها كلا، بل إني أدعو وأؤكد على بقائها وانتشارها، ولكن بعد أن تُراجع وتقوم وتنظم وتطور وفق دراسة وافية ومتأنية، ومن البرامج المقترحة التي أرى أنها جديرة بالاهتمام والتطبيق وهي موجودة ولله الحمد في دورات أخرى ما يلي:

1 ـ حفظ أجزاء محدودة من القرآن، ولا أريد أن أحدد القدر المناسب للحفظ في كل دورة، لأمرين:

أ ـ أن هذا يحتاج إلى دراسة وافية كما أسلفت.

ب ـ أن هذا القدر يختلف باختلاف مدة الدورة، ومستوى الطلاب، ومكان الدورة، وغير ذلك من المؤثرات.

2 ـ إقامة دورات للضبط والإتقان، يتخللها بعض البرامج العلمية والتربوية، وفي رأيي أننا بأمس الحاجة إلى هذا النوع من الدورات لأننا لا نشكو من قلة الحفاظ في كثير من البلاد – ولله الحمد – ولكننا نشكو من قلة الحفاظ الضابطين المجودين، المتخلقين بأخلاق القرآن.

3 ـ إقامة دورات في التجويد وحسن الأداء، والتفسير، وعلوم القرآن، وهذه أيضاً مهمة، لأنه يوجد كثير من الحفاظ لا يحسن الأداء، ولا يعرف تفسير قصار السور، ومن المعلوم أن تدبر القرآن موقوف على فهم معناه.

هذا ما أحببت تعليقه حول هذا الموضوع، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان. وأرجو أن تتسع صدور إخوتي القائمين على الدورات لهذه الملحوظات، فو الله ما دعاني إلى تقييدها إلا النصح لكتاب الله، وأهله، بعد طول تأمل.

وأسأل الله تعالى الهداية والسداد، وحسن القصد وصلاح العمل، كما أسأله - سبحانه - أن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن الحكيم، وأن يجعله لنا شفيعاً يوم القيامة، إنه سميع قريب.

كتبه / د. إبراهيم بن صالح الحميضي

الأستاذ المساعد في جامعة القصيم - قسم القرآن وعلومه

---الحواشي -----

(1) انظر منجد المقرئين، ومرشد الطالبين لابن الجزري: ص9، وانظر أخلاق حملة القرآن للآجري: ص186.

(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 20/ 391، وانظر الإتقان 1/ 124.

(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 346).وروي عن أبي العالية مرسلا، أخرجه البيهقي في الموضع السابق، و ابن أبي شيبة (6/ 118)، وأبو نُعيم (9/ 319).وبعض هذه الآثار يقوي بعضاً.

(4) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 118)

(5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 3/ 347

(6) المصدر السابق (4/ 511، 513)، وانظر موطأ ملك 1/ 205.

(7) انظر هكذا فلنحفظ القرآن لمحمد مصطفى شعيب ص 140، وكيف نحفظ القرآن الكريم للدكتور يحيى الغوثاني ص 57.

(8) الفقيه والمتفقه (2/ 100).

(9) الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ ص 255.

(10) انظر المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي ص 28، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 293 والإتقان للسيوطي 1/ 120

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير