تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي أنواع أخرى تقوم الأنثى بتغذية صغارها حتى إذا اشتد عودهم قتلوا أمهم وأكلوها. ومما سبق يتضح أن البناء الاجتماعي والعلاقات الأسرية في بيت العنكبوت تتصف بأنها مبنية على مصالح مؤقتة حتى إذا انتهت هذه المصالح انقلب الأفراد أعداء وقام بعضهم بقتل بعض، فهذه أنثى العنكبوت تسمح للذكر بدخول عشها لوجود مصلحة التلقيح حتى إذا قضت أربها منه انقلبت عليه وقامت بقتله وأكله، وأخرى تقدم زوجها طعاماً لأولادها، وفي نوع آخر يأكل الصغار أمهم أول ما تقوى أعوادهم.

وهذا العداء الشديد الذي يتجلى فقط بعد انقضاء المصالح، وهذه العلاقات الهشة الضعيفة بين أفراد بيت العناكب يجعل هذا البيت بحق أوهى بيوت المخلوقات المعروفة.

المناقشة:

ذهبت كتب التفسير إلى أن المقصود بالمثل في الآية (41) من سورة العنكبوت هو أن مثل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ونفعهم ورزقهم عند حاجتهم إليهم ويتمسكون بهم في الشدائد كمثل العنكبوت في ضعفها اتخذت بيتاً ضعيفاً لا يغني عنها شيئاً عند حاجتها إليه (الطبري وابن كثير وآخرون). وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولياء المقصودين هنا هم الأصنام والأوثان (زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي)، وبمراجعة المواضع التي ذكرت فيها كلمة أولياء في القرآن الكريم نجد أن الآيات نصت على ذكر الأولياء في أغلب المواضع (20 من أصل 33) على أنهم من الأحياء، كما فصل سابقاً ولم تنص أي من آيات القرآن الكريم على أن الأولياء يكونون من الأوثان والأصنام، وهذا يتوافق على معنى كلمة أولياء ومعنى الولاية، كما وردت في لغة العرب حيث تعني الولاية النصرة وهي تشعر بالتدبر والقدرة والفعل، والولي هو المحب والصديق والنصير، وهذه الأفعال والتصرفات لا تصدر عن جماد.

وبمراجعة الحقائق العلمية الحديثة عن نسيج العنكبوت ومسكنه نجد أن العلم الحديث يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن نسيج العنكبوت يعد من أقوى الأنسجة الطبيعية حيث يتصف بالمرونة والصلابة التي تفوق صلابة الحديد الصلب وأن بيت العنكبوت المادي بمعنى المسكن يعد من أقوى المساكن حيث يستطيع إيقاف نحلة تفوق حجم العنكبوت مرات عديدة وتطير بسرعة فائقة بدون أن يصيبه تلف أو تمزق.

وعلى ذلك فإني أرى -والله أعلم- أنه من غير الراجح أن المقصود ببيت العنكبوت الذي وصفه القرآن بأنه أوهن البيوت هو شبكة العنكبوت التي يتخذها سكناً ومصيدة لفرائسه. بل لعل المقصود ببيت العنكبوت -والله أعلم- أسرة العنكبوت التي هي بحق أوهى الأسر ترابطاً وتآلفاً، كما بينا. وقد ذكرنا أن العرب استخدمت كلمة (بيت) بمعنى امرأة الرجل وعياله. وقد أثبت العلم الحديث أن العلاقة الأسرية بين العناكب علاقة تحكمها المصلحة حتى إذا انقضت المصلحة انقلبوا أعداء يقتل بعضهم بعضاً كما فصل سابقاً، ولا تجتمع هذه الخصال السيئة والعلاقات الهشة في أي بيت لمخلوق آخر مما يجعل بيت العنكبوت بمعنى المرأة والأولاد هو أوهن بيوت المخلوقات قاطبة.

وإذا قبلنا أن المقصود في الآية الكريمة هذا المعنى للبيت، أي بمعنى العلاقات الأسرية، فإن وصف القرآن الكريم له بأنه أوهن البيوت يتطابق مع ما بينه الله تعالى لعباده من خلال ملاحظات العلم الحديث لحياة العناكب. ويكون وجه الشبه في المثال المضروب في القرآن الكريم واضحاً جداً حيث إن الذين يتخذون من دون الله أولياء إنما يتخذونهم لمحاولة تحقيق مصالح دنيوية حتى إذا تحققت هذه المصالح انقلبوا أعداء، إما في الدنيا أو في الآخرة، يقول تعالى: (الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67) وهذه العلاقة المؤقتة والمصلحة الآنية تنطبق على العنكبوت وأهل بيته كما ذكرنا.

ومن ناحية أخرى: إذا نظرنا إلى وجه الشبه في المثل المضروب بين الذين اتخذوا من دون الله أولياء وأوليائهم وبين العنكبوت وبيتها بمعنى المسكن، نجد أن الفرق كبير فالعلاقة بين الذين اتخذوا من دون الله أولياء وأوليائهم هي علاقة بين أحياء وهي علاقة محبة وصداقة ونصرة وذلك تحقيقاً لمعنى الولاية. أما العلاقة بين العنكبوت وبيتها المادي بمعنى المسكن فهي علاقة بين كائن حي وجماد فلا تتحقق الولاية بمعنى الصداقة والنصرة لعدم قدرة الجماد على التدبر والقدرة والفعل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير