جاء في سورة الأنعام نفسها بعد أقل من 20 آية من الحوار الإبراهيمي قوله تعالى " إن الله فالق الحب و النوى يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي ... " و قد فُسرت " يخرج الحي من الميت " بإخراج المؤمن من صلب الكافر. فلا عجب أن يولد إبراهيم من صلب رجل كافر. و لا عجب أن يولد كافر من نبي (ولد نوح).
ثانيا:
: أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر، وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح. فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضاً، وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما، وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى، ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن. (الرازي).
ثالثا:
. واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد البتة، فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات، والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية، أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه، فلو كان هذا النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح. (الرازي)
رابعا:
أختم بهذا النقل من كتاب " أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام" -علي بن سلطان محمد القاري:
.. أنه قال تعالى في كلامه القديم ما يدل على كفر أبي إبراهيم والأصل في حمل الكلام على الحقيقة ولا يعدل عنه إلى المجاز إلا حال الضرورة عند دليل صريح ونقل صحيح يضطر منه إلى ارتكاب المجاز فبمجرد قول إخباري تاريخي يهودي أو نصراني كما عبر عنه بـ "قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام بل كان عمه " كيف يعدل عن آيات مصرحة فيها إثبات الأبوة منها قوله تعالى "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" وهو عطف بيان أو بدل بناء على أنه لقب له أو نعت بلسانهم ونحو ذلك ومنها قوله تعالى " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم.وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " وفي قراءة شاذة " أباه".ومنها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم "يا أبت" مكررا ومنها قوله تعالى" قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء "
وأقول زيادة على ذلك وهو أنه كان مبينا للكتاب وممهدا الطريق الصواب فلو كان المراد بأبي إبراهيم عمه لبينه ولو في حديث للأصحاب ليحملوا الأب على عمه بطريق المجاز في هذا الباب.
ثم دعوى أن آباء الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا كفارا تحتاج إلى برهان واضح ودليل لائح فاستدلاله بقوله تعالى "وتقلبك في الساجدين " بناء على قيل في غاية من السقوط كما يعلم من قول سائر المفسرين في الآية. فقد ذكر البيضاوي وغيره في تفاسيرهم أن معنى الآية وترددك في تصفح أحوال المتهجدين كما روي أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى.
ونقل الإمام أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى " وتقلبك في الساجدين " أن الرافضة هم القائلون إن آباء النبي كانوامؤمنين مستدلين بقوله تعالى "ونقلبك في الساجدين " وبقوله عليه الصلاة والسلام لم أزل انقل من اصلاب الطاهرين. . . الحديث
ولا يخفى أنه لم يثبت به الظن فضلا عن القطع بل إنما هو في مرتبة الشك أو الوهم.
ثم الاستدلال على أن آباء محمد ما كانوا مشركين بقوله ولم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات إلى آخر ما ذكره مردود عليه بما أشرنا إليه وبأن المراد بالحديث ما ورد من طرق متعددة منها ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بين أبوين فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم عليه السلام حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا أي روحا و ذاتا وخيركم أبا أي نسبا وحسبة.
ومنها ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا "لم يلتق أبواي قط على سفاح لم يزل الله عز وجل يتقلبني من الأصلاب الطيبة والأرحام الطاهرة صافيا مهذبا لا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما"
ومنها ما أورده البيهقي في سننه "ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام"
وأما ما ذكر ابن حجر المكي تبعا للسيوطي من أن الأحاديث مصرحة لفظا في أكثره ومعنى في كله أن آباء النبي غير الأنبياء وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر لأن الكافر لا يقال في حقه إنه مختار ولا كريم ولا طاهر فمردود عليه إذ ليس في الأحاديث لفظ صريح يشير إليه وأما المعنى فكأنه أراد به لفظ المختار و الكريم والأطهار وهو لا دلالة فيه على الإيمان أصلا وإلا فيلزم منه أن تكون قبيلة قريش كلهم مؤمنين لحديث "إن الله اصطفى بني كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة " ولم يقل به أحد من المسلمين وكذا حديث "فاختار منهم العرب " ولا يصح عموم إيمانهم قطعا بل لو استدل بمثل هذا المبنى لزم أن لا يوجد كافر على وجه الأرض لقوله تعالى " ولقد كرمنا بني آدم. . ." إلى أن قال "وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"
فتأمل فإنه موضع زلل ومقام خطل
واحذر أن تكون ضالا مضلا في الوحل.
ثم ما أبعد قوله في حديث مسلم 347 " إن أبي وأباك في النار"وقصد بذلك تطييب خاطر ذلك الرجل خشية أن يرتد إن قرع سمعه أولا أن أباه في النار. وهذا نعوذ بالله وحاشاه أن يخبر بغير الواقع ويحكم بكفر والده لأجل تألف واحد يؤمن به او لا يؤمن
فهذه زلة عظيمة وجرأة جسيمة
حفظنا الله عن مثل هذه الجريمة.
اهـ.
و الله أعلم
¥