تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صور لهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالنظم الفريد , وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وقد تلقي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كل ذلك الكفر والجحود والاضطهاد بصبر وجلد واحتساب حتي كتب الله تعالي له الغلبة والنصر فأدي الأمانة , وبلغ الرسالة , ونصح البشرية , وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين.

وتختتم سورة التكوير بالتأكيد علي أن القرآن الكريم هو ذكر للعالمين وأن جحود بعض الناس له , وصدهم عنه , وإيمان البعض الآخر به وتمسكهم بهديه هي قضية شاء الله تعالي أن يتركها لاختيار الناس وفقا لارادة كل منهم , مع الايمان بأن هذه الإرادة الانسانية لا تخرج عن مشيئة الله الخالق الذي فطر الناس علي حب الايمان به , ومن عليهم بتنزل هدايته علي فترة من الرسل الذين تكاملت رسالاتهم في هذا الوحي الخاتم الذي نزل به جبريل الأمين علي قلب النبي والرسول الخاتم (صلي الله عليه وسلم) , وأنه علي الرغم من كل ذلك فإن أحدا من الناس ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة ـ لا يقدر علي تحقيق الاستقامة علي منهج الله تعالي إلا بتوفيق من الله. وهذه دعوة صريحة إلي الناس كافة ليطلبوا الهداية من رب العالمين في كل وقت وفي كل حين.

والقسم بالأشياء الواردة بالسورة هو للتأكيد علي أهميتها لاستقامة أمور الكون وانتظام الحياة فيه , وعلي عظيم دلالاتها علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعتها وصرفت أحوالها وحركاتها بهذه الدقة المبهرة والاحكام العظيم.

الخنس الجوار الكنس في اللغة العربية

جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس (المتوفي سنة 395 هـ) , تحقيق عبدالسلام هارون (الجزء الخامس , الطبعة الثانية 1972 م , ص 141, ص 223) وفي غيره من معاجم اللغة تعريف لغوي للفظي الخنس والكنس يحسن الاستهداء به في فهم مدلول الخنس الجوار الكنس كما جاءا في آيتي سورة التكوير علي النحو التالي:

أولا: الخنس:

خنس: الخاء والنون والسين أصل واحد يدل علي استخفاء وتستر , قالوا: الخنس الذهاب في خفيه , يقال خنست عنه , وأخنست عنه حقه.

والخنس: النجوم تخنس في المغيب , وقال قوم: سميت بذلك لأنها تخفي نهارا وتطلع ليلا , والخناس في صفة الشيطان , لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالي , ومن هذا الباب الخنس في الأنف انحطاط القصبة , والبقر كلها خنس.

ومعني ذلك أن الخنس جمع خانس أي مختف عن البصر , والفعل خنس بمعني استخفي وتستر , يقال خنس الظبي إذا اختفي وتستر عن أعين المراقبين.

والخنوس يأتي أيضا بمعني التأخر , كما يأتي بمعني الانقباض والاستخفاء. وخنس بفلان وتخنس به أي غاب به , وأخنسه أي خلفه ومضي عنه.

ثانيا: الجوار:

أي الجارية. (في أفلاكها) وهي جمع جارية , من الجري وهو المر السريع.

ثالثا: الكنس:

(كنس) الكاف والنون والسين تشكل أصلين صحيحين , أحدهما يدل علي سفر شئ عن وجه شئ وهو كشفه والأصل الآخر يدل علي استخفاء , فالأول كنس البيت , وهو سفر التراب عن وجه أرضه , والمكنسه آلة الكنس , والكناسة مايكنس.

والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي , والكانس: الظبي يدخل كناسه , والكنس: الكواكب تكنس في بروجها كما تدخل الظباء في كناسها , قال أبو عبيدة: تكنس في المغيب.

وقيل الكنس جمع كانس (أي قائم بالكنس) أو مختف من كنس الظبي أي دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر , وسمي كذلك لأنه يكنس الرمل حتي يصل إليه. وعندي أن الكنس هي صيغة منتهي الجموع للفظة كانس أي قائم بعملية الكنس , وجمعها كانسون , أو للفظة كناس وجمعها كناسون , والكانس والكناس هو الذي يقوم بعملية الكنس (أي سفر شيء عن وجه شيء آخر , وإزالته) , لأنه لا يعقل أن يكون المعني المقصود في الآية الكريمة للفظة الكنس هي المنزوية المختفية وقد استوفي هذا المعني باللفظ الخنس , ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعني دفع بجمهور المفسرين إلي القول بأن من معاني فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس: أقسم قسما مؤكدا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معني الخنس , والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها (أي مغاراتها) وهو معني الجوار الكنس , قال القرطبي: هي النجوم تخنس بالنهار , وتظهر بالليل , وتكنس وقت غروبها أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار وهو الكناس , وقال مخلوف: أقسم الله تعالي بالنجوم التي تخنس بالنهار أي يغيب ضوؤها فيه عن الأبصار مع كونها فوق الأفق , وتظهر بالليل , وتكنس أي تستتر وقت غروبها أي نزولها تحت الأفق كما تكنس الظباء في كنسها .. وقال بعض المتأخرين من المفسرين: هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية , وتجري في أفلاكها وتختفي.

ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أني أري الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس. ينطبق انطباقا كاملا مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود

( Black Holes).

وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين , وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة علي نبي أمي (صلي الله عليه وسلم) , في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين , هي شهادة صدق علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته , وعلي أن سيدنا محمدا بن عبدالله كان موصولا بالوحي , معلما من قبل خالق السماوات والأرض , وأنه (صلي الله عليه وسلم) ما كان ينطق عن الهوي , إن هو إلا وحي يوحي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير