تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لو أن هذا الأمر كان ممكناً حقاً لكان الناس منذ ظهرت قضية الدين قد انحازوا فيها جميعاً ـ وهم على يقين لا يتزعزع ـ إلى قول واحد لا سبيل لعاقل إلى مخالفته ورفضه ـ كما يحدث عادة في مجال النتائج اليقينية للعلم التجريبي بشتى فروعه ـ لأن صاحب اليقين الديني عندئذ كان سيدلل على يقينه الباطني بأدلة خارجة عن ذاته وذات معارضه وذوات البشر جميعاً، كما يدلل صاحب التجربة العلمية على صحة تجربته بدعوة الناس إلى تكرارها بشروطها وظروفها مرات عديدة ليروا أن نتيجتها لا تتخلف مرة واحدة إذا ما توفرت هذه الشروط والظروف، بصرف النظر عن شخص القائم بها ومكوناته النفسية والوجدانية الخاصة وجنسه وسنه وكافة خصوصياته.

لكن ذلك لم يحدث، ويبدو أنه لن يحدث، ما دام أمر الاعتقاد البشري ـ في المعرفة التي تتداخل فيها والذات البشرية على السابق ـ ليس مرجعه الأخير خارج الذات، بحيث يمكن تكرار التجربة فيه مرات لا حصر لها كلما توفرت ظروفها، وبحيث تنتهي التجربة في كل مرة ـ دون تخلف ـ إلى نفس النتيجة التي لا يملك العاقل إلا التسليم بها.

2 ـ ولا شك أن الأنبياء الذين عاينوا تجربة الوحي وعايشوها بأنفسهم كانوا أكثر المؤمنين بها يقيناً، ومع هذا لم يستطيع واحد منهم أن ينقل يقينه الباطن هذا إلى البشر جميعاً بحيث لا يتخلف واحد منهم عن التسليم بصحته، ولا إلى كل مَن لقيهم ولقوه من معاصري كل نبي.

وفي النصوص والتواريخ الدينية نماذج متعددة لم يستطيع فيها النبي أن ينقل شيئاً من يقينه إلى أفراد من أقرب الناس إليه بينما يستطيع أصغر الباحثين التجريبيين ـ حين يصل إلى نتيجة يقينية ـ أن ينقل يقينه المكتشف فيها إلى الناس جميعاً، حيث يرجع فيها إلى أمور خارجة عن ذوات البشر، بحيث تتكرر النتيجة كلما توفرت نفس ظروف اكتشافها، فلا يكون أمام العاقل إلا التسليم بصحتها.

وقد يثير شيئاً من العجب لدى بعض الناس أن يعرفوا أن بعض آيات القرآن الكريم قد عرضت لتقرير هذه الحقيقة فيما يختص بأثر النصوص الدينية ـ بما تتضمنه من دلائل وشواهد للإيمان ـ في قلوب الناس وعقولهم، حيث تبين بصورة صريحة أن الآيات التي تزيد الإيمان في قلوب بعض الناس وتهديهم إلى اليقين هي نفسها التي لا تزيد بعضهم الآخر إلا جحوداً واصراراً على الرفض، فهي تحدث تأثيرين متناقضين تجاهها وتجاه قضية (الدين) بعامة، وذلك تبعاً لاختلاف الخصوصية الذاتية لدى نوعين من البشر، يقول تعالى: (وتنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) الإسراء: 82.

3 ـ وقد يأتي إلى الذهن في هذا المجال موضوع (المعجزات الدينية) باعتبارها أمراً يصدر عن الأنبياء خارقاً للعادات والقوانين الطبيعية، بحيث يكون من شأنها أن تحمل مشاهديها ـ وكل مَن يصلهم خبرها اليقيني ـ على التسليم بصدورها عن قوة أعلى من البشر، فما يتضمن التسليم بقضية الدين الأساسية، وهي أن الوحي من الله سبحانه وتعالى ولا يمكن أن يكون صادراً عن ذات النبي أو غيره من البشر.

وقد يقال بناء على ذلك إن المعجزة في هذا تؤدي ـ من حيث أثرها ـ نفس دور التجربة العلمية التي سبق أن أشرنا إليها، لأن كلا منهما تؤدي ضرورة إلى تسليم المشاهدين بها ويقينهم فيها، وإن كانت التجربة العلمية كشفاً لقانون مطرد من قوانين الطبيعة، يكشف العقل عنه فلا تتخلف نتائجه إذا توفرت شروطها، أما المعجزة الدينية فهي في حقيقتها كسر للقوانين المطردة في الطبيعة لا يستطيع الإنسان له تفسيراً إلا بالتسليم بصدوره عما وراء هذه الطبيعة حيث يستحيل تفسيرها في نطاقها.

لكن استقراء تواريخ النبوات يدلنا في وضوح على أن (المعجزة الدينية) لم تقم في تاريخ النبوة بنفس الدور الذي قامت ـ وتقوم به ـ (التجربة العلمية) في تاريخ العلم والتطور التجريبي المادي. وقد بدا الفارق بينهما أكثر وضوحاً في القرون الأخيرة على وجه الخصوص، منذ أخذ الناس يتقبلون نتائج العلوم التجريبية باليقين والتصديق، متى توفرت لهم الدلائل المادية على صدفها، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر كان يصدهم من قبل عن هذا التصديق. ولست تجد الآن إنساناً عاقلاً ينازع في أية نتيجة أو قانون علمي ثبتت صحته بطريق المنهج التجريبي في الطبيعة وموادها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير