تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويعرض القرآن الكريم لخلق الكون والإنسان فيقول: (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون. يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم. الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) السجدة: 4 ـ 9. ثم يرسل الله إليهم رسله بالكتب، والبينات، والمعجزات، فيختار كثير منهم الكفر والجحود لأنهم لا يصدقون بإمكان بعث الأجساد بعد موتها وانحلالها واختلاطها بالأرض (وقالوا: أإذا ضللنا في الأرض أننا لي خلق جديد؟ بل هم بلقاء ربهم كافرون) السجدة: 10. ثم يصور الله الموت وما بعده بالنسبة لهم فيقول: (قل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم: ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون) السجدة: 11 ـ 12. فعندئذ فحسب يستيقن الذي جحدوا في الدنيا بصحة ما أتى به إليهم الدين. فيطالبون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا، وذلك لن يكون. ويعقب الله سبحانه وتعالى على ذلك كله بقوله: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) السجدة: 13. أي لو شئنا لأجبرنا الخلق على الهداية، لكنا أردنا أن يكون منهم اختيار، وعلمنا أن منهم مَن يختار الكفر ومنهم مَن يختار الإيمان.

فموجز التفسير الديني في هذه القضية ـ كما يستخلص من نصوص القرآن الكريم ـ أن الخالق سبحانه وتعالى لو شاء لفطر الخلق جميعاً على طبيعة مؤمنة لا تتأثر بدواعي الجحود وليس معها احتمال لكفر، ولو شاء لجعل معجزات الأنبياء ونصوص الدين في صورة تحمل ـ بذاتها ـ الالزام واليقين إلى الناس جميعاً، بحيث تخضع أعناق الخلق لها، فلا يملك واد منهم أمامها تكذيباً أو رفضاً. لكنه لو فعل ذلك لكان معناه (جرّ الخلق جميعاً على الإيمان) مما تنتفي معه عند كل منهم أية خصوصية للنظر والاختيار بين الإيمان والكفر وبهذا الجبر الشامل للخلق جميعاً تُلغي الخصوصيات الفردية، ومكونات الذات الخاصة التي هي مناط الحرية والاختيار. وإذا آمن الناس جميعاً بهذا الإلزام الجبري فإن حكمة الله من خلق الكون وخلافة الإنسان في الأرض لم تكن لتتحقق لأنه (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) المُلك: 2. وهذا الابتلاء والتمايز في العمل يقتضي قسطاً من الحرية وخصوصية الذات في النظر والاخيار، مما يتناقض معه جبر الخلق جميعاً على الإيمان بحكم طبيعة خلقهم، أو بآية تنزل عليهم من السماء متضمنة إلزام الخلق جميعاً على الإيمان الجبري عبر عنه بخضوع الأعناق.

فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى لا يُعصى ولا يُكفر به قسراً، لأنه لو شاء لما كفر به مخلوق، إنما اقتضت مشيئته في الخلق أن يعطي لكل منهم شيئاً من خصوصية الذات في النظر والاختيار حتى يكون للحساب معنى ومجال، ومن هنا لم يضمن آياته ـ في ذاتها ـ معنى الالزام القسري لكل مَن تعرض عليه دون إفساح لخصوصية ذاته في النظر والاختيار.

ويضاف إلى ذلك أيضاً أن آيات القرآن الكريم تبين ـ في آيات متعددة ـ أنه رغم إفساح المجال لخصوصية كل ذات في النظر في قضية الدين ـ فإن آيات الله ـ سواء في الطبيعة المادية أو في النصوص الدينية ـ وإن لم تتضمن بذاتها ضرورة معنى الإلزام للخلق، إلا أنها آيات محكمة، من شأنها أن الإنسان إذا جرد ذاته من هوى النفس الذي يميل إلى إسقاط التكاليف أو التخفف منها، واتجه إلى البحث عن الحقيقة في ذاتها، مهما وافقت هوى النفس أو خالفته، فإنه لابدّ أن يفتي ـ بنظره الخاص وحريته واختياره ـ إلى الإيمان بصدق الدين والوحي، لأن الله قد بثَّ في الكون ـ وفي نفس الانسان ذاتها ـ ما يهديه إلى الحق واليقين إن طلبه بروح خالصة غير ملتبسة بهوى النفس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير