تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا نادى أحد بوجوب طرح كل ما لا يمكن البرهنة المادية عليه تجريبياً ـ وبصورة مباشرة متكررة ـ من مجال المعرفة والاعتقاد البشري، فإنه يجاب عليه بأن ذلك نفسه يؤدي إلى طرح كثير من القضايا التي تدخل في صميم بحث العلم التجريبي، والتي لا يستطاع ـ حتى الآن على الأقل ـ البرهنة اليقينية عليها تجريبياً، أو حتى الوصول فيها إلى ظن راجح بأدلة.

فإن قيل: إن العلم التجريبي سوف يصل في وقت ما ـ بطريق البحث المتتابع جيلاً بعد جيل ـ إلى اليقين العلمي في هذه القضايا.

فإنه يقال أيضاً: إن وصول البشرية إلى إجابات يقينية عن كل شيء في الوجود المادي ـ دون أي استثناء ـ إنما هو، حتى الآن، مجرد (فرض) تجد له هو الآخر معارضة قوية فيما يذكره كثير من العلماء التجريبيين من أن حل كثير من مشكلات الوجود المادي بإجابات مقنعة، كثيراً ما يقودنا إلى أسئلة أخرى لا تجد جواباً، فإذا بحثنا عن إجابة لها، ووصلنا إلى حل ألغاز بعضها، فإن هذا الحل نفسه كثيراً ما يقودنا هو الآخر إلى تساؤلات أخرى تتطلب الجواب ... وهكذا، حتى يدرك العقل البشري أن محاولاته المستمرة لتعليل الظواهر المادية، وتعليل العلة، وعلة العلة، أمر لن يقوده في النهاية إلى العلم الشامل الكامل الذي ينكشف معه كل شيء بإطلاق دونما أي خفاء، لأن أسرار الوجود المادي وعلله تبدو أكبر بكثير جداً مما يمكن العقل البشري أن يحيط به بشمول.

وحتى إن يحقق ذلك الفرض، وأصبحت البشرية عالمة علماً شاملاً محيطاً بكل جوانب الوجود المادي من أصغر ذرة في الأرض إلى أبعد نجم وكوكب من الكون، فإن ذلك كله لا يكفي ـ في ذاته ـ للبرهنة على بطلان قضية الدين ومضمونها، لا بعد أن يصل البشر إلى السيطرة الكاملة على كل قوانين الخلق والوجود المادي، بحيث يصبح في مقدورهم خلق الحياة من العدم، والإحاطة القاطعة بكنه (الروح)، والقضاء على ظاهرة (الموت)، وغير ذلك من الأمور التي قطعت النصوص الدينية بعجز البشر المؤبد عن الوصول إليها أو الإحاطة بأسرارها.

أما قبل ذلك، فإن الدعوة إلى طرح قضايا الاعتقاد الديني من مجال (العلم البشري) بحجة أنه لا يمكن البرهنة على صحتها بصورة تجريبية مادية مباشرة قابلة للتكرار، دعوة تتضمن شيئاً كثيراً من ترتيب النتائج على مقدمات لا تؤدي إليها لما سبق أن عرضنا له ـ ثم هي أيضاً دعوة تخالف ـ في نظري ـ الأسلوب العلمي المتبع في العلوم التجريبية ذاتها، حيث لا يُطرح احتمال ما من ماجل البحث ـ بصورة نهائية ـ إلا بعد أن تقوم أدلة قاطعة على وجوب طرحه لأنه لا احتمال لليقين فيه. ومثل هذه الأدلة القاطعة لم تقم أبداً بالنسبة لبطلان قضايا الدين ومضامينه على وجه العموم، بل إن النقيض هو الذي يحدث دائماً بالنسبة للباحث المحايد حيث تقوم أدلة بالغة القوة على صدق قضية الدين.

5 ـ لكن، ألا يقودنا ذلك كله إلى تساؤل هام:

ولِمَ لَمْ تكن معجزات الدين ونصوصه وبراهينه، بالنسبة لكل من تعرض عليه، في قطعية التجربة المادية اليقينية التي سبق أن عرضنا لها، بحيث لا يملك الإنسان أمامها إلا التسليم بصحتها، دون احتمال منه لرفض أو رد وبحيث يمكن تكرر البرهنة المادية عليها ـ عند توفر شروطها ـ أمام كل مَن تعرض عليه؟

إن القرآن الكريم يعرض وجهة الدين في الإجابة عن هذا التساؤل الهام حين يقول الله تعالى لرسوله الذي كان الحزن يملأ قلبه لعدم إيمان الناس جميعاً بصدق القرآن: (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) الشعراء: 3 ـ 4. يعني ـ كما يقول ابن كثير وغيره ـ: لو شئنا لأنزلنا آية تضطر الخلق جميعاً إلى الإيمان بها قهراً، بحيث لا يكون أمام واحد منهم أدنى احتمال لتكذيب أو رفض، ولكنا لا نفعل ذلك، لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري، الذي يعطى فيه شيء من حرية الإرادة والاختيار الحقيقي الذي سيحاسب الإنسان على أساسه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير