ولكن ما الفرق بين (أن الله يعذب بهذا أو يرحم) وبين (إن الله يعذب باللسان أو يرحم)؟
الفرق أن في أحد الخبرين إشارة وفي الأخر تصريح باللفظ، ولا شك أن في حذف اللفظ والاكتفاء بالإشارة التي تراها العين توكيداً للمعني، وبخاصة أن في الكلام تشريعاً يترتب عليه حرام وحلال،كما أن في حذف لفظ [اللسان] تهويلاً وترهيبا ًمن عواقبه , لأنه إما أن يرفع صاحبه إلى عليين , أو يهوي به إلى أسفل سافلين , وهنا ترى كلام الإمام عبد القاهر قد تمثل أمامك , وذلك قوله: " وترى ترك الذكر أفصح من الذكر ... "
******
الاختصاص بالإشارة
الاختصاص في البلاغة العربية له أدواته المعروفة مثل (إلا, وإنما, والعطف بلا وبل ولكن) ...
ويمكن أن يضاف إلى ذلك الإشارة؛ لأنها تصحب اللفظ فتخصص جزءه , أو نوعه , أو أفضله , أو أدناه.
ومن هذا الباب ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال:
أشار النبي صلى الله عليه وسلم نحو اليمن فقال:
" ألا إن الإيمان ههنا , وأن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر (75)
فالحديث يختص أهل اليمن بعلو القدر في الإيمان وسبقهم في ذلك غيرهم , ولقد كان الاختصاص بأداة بيانية واضحة تراها العيون , وهي الإشارة باليد , يقول ابن حجر: [قوله أشار رسول الله بيده نحو اليمن فيه تعقب على من زعم أن المراد بقوله " يمان " الأنصار ,
لكون أصلهم من أهل اليمن؛ لأن في إشارته إلى جهة اليمن ما يدل على المراد به أهلها حينئذٍ, لا الذين كان أصلهم منها ,وسبب الثناء على أهل اليمن هو إسراعهم إلى الإيمان] (76)
وهذا يعني أن الإشارة أفادت خصوصية في المراد , وهو أن الفضل الإيماني في أهل اليمن الذين كانوا في عهد رسول الله خاصة , وليس الأمر متعلقاً بمن سبقوا منهم , أو من جاءوا من بعدهم , ولذلك جاء في رواية " جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة , الإيمان يمان , والفقه يمان , والحكمة يمانية " (77)
فالإشارة في الحديث خصصت الوقت , وليس الأمر على إطلاقه , فالفضل إذن للأنصار الذين آووا ونصروا , فهم أرق أفئدة , وأهل فقه وإيمان , ولذلك كان الاعتراض على من ظن أن اللفظ على إطلاقه فقيل [أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة ثم من المدينة] (78)
بل غالى البعض فقال إنه أراد بذلك مكة , ومكة من تهامة , وتهامة من أرض اليمن , أو أراد مكة والمدينة معاً ... حيث جاءت الرواية بأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو في تبوك , ومكة والمدينة حينئذٍ بينه وبين اليمن , فأشار إلى ناحية اليمن , وهو يريد مكة والمدينة , فقال الإيمان يمان ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذٍ من ناحية اليمن , كما قالوا الركن اليماني , وهو بمكة لكونه إلى ناحية اليمن.
لكن الأحسن - كما قال أبو عبيدة: أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانيون في الأصل , فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره] (79)
ولعل هذا القول هو الذي يفسر الجمع بين الإشارة واللفظ في رواية البخاري حيث جاء فيها:
[الإيمان يمان ههنا]
فقوله: " يمان " إشارة إلى أهل اليمن.
وقوله: " ههنا" أراد بها الأنصار.
وذلك لأن اسم الإشارة " هنا " يدل على القرب كما قال ابن مالك:
وبهنا أو ههنا أشر إلى داني المكان وبه الكاف صلا
أي: يشار إلى المكان القريب بـ " هنا " ويتقدمها هاء التنبيه فيقال: " ههنا " (80)
وعلى هذا فالحديث مدح للأوس والخزرج , فهم الأرض التي اشتد فيها عود الإسلام , واستوى على سوقه , وبيعتي العقبة دليل ذلك.
أما ما قاله بعضهم من صرف المعنى عن ظاهره , وأنه صلى الله عليه وسلم أراد مكة فإنه يخالف الروايات الكثيرة والصريحة في أنهم أهل اليمن , نحو: أتاكم أهل اليمن , وجاءكم أهل اليمن , ثم جاءت الإشارة في روايات أخرى لتؤكد هذه الأمور , وقد اختار النووي هذا الرأي , وحسنه أبو عبيدة.
ومن هذا الباب ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة , فقال: " فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه "
وزاد قتيبة في روايته: وأشار بيده يقللها.
وفي رواية أخرى: " وقال بيده يقللها يزهدها " (81)
¥