وهذه الإشارة استنبط منها الصحابة معنى القلة , كما نص على ذلك الراوي , مما يعني أنهم مصطلحون ضمناً على إشارات يفهمون منها معاني خاصة , ولذلك [جاء في رواية سلمة بن علقمة .... ووضع أنمله على بطن الوسطى , أو الخنصر يزهدها.
وبين أبو مسلم الكجي أن الذي وضع أنمله هو بشر بن المفضل رواية عن سلمة بن علقمة , وكأنه فسر الإشارة بذلك , وأنها ساعة لطيفة تنتقل بين وسط النهار إلى قرب آخره , وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله " يزهدها " أي: يقللها.
ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة [وهي ساعة خفيفة].
وللطبراني في الأوسط من حديث أنس [وهي قدر هذا] يعني: قبضة.
قال الزبير بن المنير: الإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها , والحض عليها ليسارة وقتها , وغزارة فضلها ...
و فائدة الإبهام لهذه الساعة , ولليلة القدر , بعث الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء , ولو بيَّن لاتكل الناس على ذلك , وتركوا ما عداها , فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها] (82)
ولا شك أن الاختصاص بالإشارة هنا لا يراد منه ساعة دون أخرى , ولكن يراد منه التنبيه على قلة وقت الإجابة كما فسر العلماء , حيث قالوا: أن هذه الإشارة تعني أنها يسيرة , أو تعني أنها ساعة خفيفة.
وقيل إنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة.
وقيل: عند الشروق.
وقيل قبل الغروب ...
وكل ذلك تفسير للإشارة بالقلة؛ حتى يجتهد المسلم في كل وقت , لعله يدركها.
دلالة الإشارة على التشبيه
للتشبيه في البيان العربي منزلة عالية , قال عنها الإمام عبد القاهر: [وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين , حتى يختصر ما بين المشرق والمغرب , ويجمع ما بين المشئم والمعرق , وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهاً في الأشخاص الماثلة ,والأشباح القائمة , ويُنطق لك الأخرص , ويعطيك البيان من الأعجم , ويريك الحياة في الجماد , ويريك التئام عين الأضاد , فيأتيك بالحياة والموت مجموعين , والماء والنار مجتمعين ... ] (83)
وظهور الإشارة في دائرة البيان , وولوجها في تصاويره الكثيرة دليل على قدرة الإشارة على حمل المعاني , وأدائها على أتم وجه , ولذا يستعان بالإشارة في الصورة التشبيهية , لأن بينهما علاقة وصلة رحم فالغرض الأول من التشبيه هو البيان والإيضاح , وليس هناك أقوى من الإشارة في إبراز المعاني في صور مشاهدة محسوسة تراها العيون , وتتلمسها الأيادي.
ومن هذا ما رواه سيدنا عمار بن ياسر قال: " بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت , فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة , ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له , فقال: " إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة , ثم مسح الشمال باليمين وظاهر كفيه ووجهه " (84)
ولا شك أن صنيع سيدنا عمار إنما كان بعد سماعه قول الله تعالى: " (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة:6) لأنه لن يفعل شيئاً دون دليل , لكن الآية لم تبين كيفية التطهر , ولا مقداره .. , لذلك بالغ سيدنا عمار فعم الجسد بالتراب.
وكان تعليمه من الصورة الإشارية التشبيهية , فقام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليمه عملياً , وهو ينظر , ولو افترضنا لفظاً يقوم مقام الإشارة , لما وفى بالبيان العملي لكيفية الضرب للأرض , وعدد المرات وما الذي يبدأ به من الأعضاء؟ , وإلى أي مدى يكون المسح؟
وغير ذلك كثير , ولقد كانت الإشارة وافية بجميع هذه الأسئلة , فما تركت في النفس شيئاً , فالتعليم هنا تعليم بالمشاهدة , فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يتشبه بأفعاله , وعليه ففي الكلام تشبيه.
ولكن كيف نكوّن هذه الصورة التشبيهية؟
المشبه هنا سيكون تيمم سيدنا عمار.
والمشبه به هو تيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه الشبه هو الإتيان بأركان التيمم على الوجه الصحيح.
ولقد تم كل ذلك من خلال الإشارة التي دلت على المعاني الكثيرة بحركات يسيرة , ولذلك سكت اللسان , وقامت اليدان لتقول بحركاتها , وتقلباتها ليرى الجميع فيحصل المراد.
ومن باب دلالة الإشارة على التشبيه ما رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة
¥