وجعفر بن فلاح هذا له ترجمة تعرف من مصادرها في كتب التراجم، حيث تذكر أنه كان قائدا محل تبجيل وتقدير الكثير في عصره ومصره، ت عام 360 مما يفيد معاصرته للشاعر.
ومن هاهنا ينقدح الإشكال وهو بين جعفر بن فلاح وابن أبي دؤاد وابن دؤاد وأحمد بن سعيد، فهؤلاء أربعة جرى ذكرهم في هذا العجز على اختلاف في النقل والقائل، ومن المعلوم أن الثاني منهم توفي عام 240، وهو صاحب الفتنة المشهورة المكسورة بسيف القرآن والسنة علي يد من اصطفاهم الله للتصدي لها، على رأسهم الإمام أحمد برد الله مضجعه، وأبو تمام كانت وفاته عام 231 وقد وفد لبلاط المعتصم وأخصبت أرضه هناك، وفي تلك الفترة أنشأ قصيدته الشهيرة فتح عمورية، ولعله التقى في هذه الفترة بابن أبي دؤاد.
وكم يعجبني قول شاعر السنة الشاعر الفحل علي بن الجهم، في هجاء ابن أبي دؤاد:
يا أحمد بن أبي دؤاد دعوة = بعثت إليك جنادلا وحديدا
ماهذه البدع التي سميتها = بالجهل منك العدل والتوحيدا
أفسدت أمرالدين حين وليته= ورميته بأبي الوليد وليدا
لامحكما جزلا ولا مستطرفا = كهلا ولا مستحدثا محمودا
شرها إذا ذكر المكارم والعلا = ذكر القلايا مبدئا ومعيدا
ويود لو مسخت ربيعة كلها = وبنو إياد صفحة وثريدا
وإذا تربع في المجالس خلته = ضبعا وخلت بني أبيه قرودا
وإذا تبسم ضاحكا شبهته = شرقا تعجل شربه مزؤودا
لا أصبحت عين أبصرت = تلك المناخر والثنايا السودا
وشاعرنا ابن هانئ شاعر المغرب على الإطلاق، وقد كان عند أهل المغرب بمنزلة المتنبه الكندي عند أهل المشرق ـ هكذا كان يسمى في بعض أرجاء العراق كما ذكر ذلك صاحب أدب الخواص ـ والمطالع لديوان ابن هانئ يرى أن لديه نزعة فلسفية يسير بها وتسير به كسيرة شاعر المعرة.
والحق أن له أبياتا ماكنت أظنها بهذا الرقي حتى عدت من قريب وتصفحت ديوانه، فرأيت شاعرا مفلقا أضاعه قومه، ولعل مما ساعد على ذلك خذلان الله له بأبيات تخرج إلى حد الكفر نسأل الله العافية، والمتأمل لها يصعب عليه أن يتلمس لها المخارج، وقد أعرضنا عن إيراد بعضها صونا لهذا الملتقى الميمون وما يحويه من مضمون.
وهو صاحب البيتين المشهورين:
وبالهمة العليا يرقى إلى العلى = فمن كان أعلى همة كان أظهرا
ولم يتأخر من يريد تقدما =ولم يتقدم من يريد تأخرا
أقول: بأن الإشكال في نسبة البيتين مازال قائما، سواء من جهة القائل ومن قيل بحقه، وحله يحتاج إلى تحقيق ونفس طويل في البحث والتفتيش في الدواوين وكتب الأدب والتراجم، وربما يصل الباحث بعدها إلى غير طائل، والوقت لا يساعد في ذلك، وكنت كلما توصلت إلى نتيجة نقضت بعد مطالعة أخرى، حتى هممت بالعزوف عن هذا التعقيب جملة، إلى أن وقعت على كلام قريب من النفس استحسنته، ولعل ما ساعد على ذلك هو فتور الهمة، وعلى كل حال هو ما وقعت عليه في وفيات الأعيان لأبي العباس ابن خلكان ـ رحمه الله ـ فقد جاء في معرض كلامه في ترجمة جعفر بن فلاح مايلي:
(أبو علي جعفر بن فلاح كان أحد قواد المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي صاحب إفريقية، جهزه مع القائد جوهر لما توجه لفتح الديار المصرية، فلما أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام، فغلب على الرملة في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ثم غلب على دمشق فملكها في المحرم سنة تسع وخمسين بعد أن قاتل أهلها، ثم أقام بها إلى سنة ستين ونزل إلى الدكة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم، فخرج إليه جعفر المذكور وهو عليل فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقا كثيرا، وذلك في يوم الخميس لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.
وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوبا:
يا منزلا عبث الزمان بأهله =فأبادهم بتفرق لا يجمع
أين الذين عهدتهم بك مرة =كان الزمان بهم يضر وينفع
وكان جعفر المذكور رئيسا جليل القدر ممدوحا، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هانئ الأندلسي الشاعر المشهور:
كانت مساءلة الركبان تخبرني = عن جعفر بن فلاح أطيب الخبري
حتى التقينا فلا والله ما سمعت =أذني بأحسن مما قد رأى بصري
والناس يروون هذين البيتين لأبي تمام في القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وهو غلط، لأن البيتين ليسا لأبي تمام، وهم يروونهما عن أحمد بن دؤاد وهو ليس بابن دؤاد، بل ابن أبي دؤاد، ولو قال ذلك لما استقام الوزن).
أقول: هكذا قال القاضي رحمه الله وفي كلامه ما أراني أول الطريق، إلا أن طريق التحقيق أطول من هذا، فلعل متزودا بعدته يأتي فيكمله، والأمر واسع بحمد الله يحتمل القولان والوجهان والروايتان، ولا يؤثر على المعنى معرفة قائله، كما لا يعنينا من قيل بحقه.
ونختم مشاركتنا هذه بقول أبي تمام وإن لم يكن من متخير شعره، بل هو مما يجرى مجرى الحكم:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل = ويكدى الفتى في دهر وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجى = هلكن إذًا من جهلن البهائم
ولم تجتمع شرق وغرب لقاصد = ولا المجد في كف امرئ والدراهم
¥