قال ابن عبد البر - رحمه الله -: (واختلفوا في سجود التلاوة، فقال أبو حنيفة وأصحابه: هو واجب.
وقال مالك، والشافعي، والأوزاعي، والليث: هو مسنون وليس بواجب.
وذكر مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثُمَّ قرأها الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال: على رِسْلِكُم، إن الله لم يكتبها علينا إلاَّ أن نشاء، فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا ([7]).
وذكر عبدالرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة عن عثمان بن عبدالرحمن، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير، أنه حضر عمرَ ابن الخطاب يوم الجمعة، فقرأ على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنَّا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب وأحسن، ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وقال: ولم يسجد عُمَرُ ([8]).
قال: وأخبرنا ابن جُريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لم يفرض علينا السجود إلاَّ أن نشاء ([9]).
قال أبو عمر: هذا عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله، ولا اتفق العلماء على وجوبه، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا أو ما كان في معناها، وبالله توفيقنا) ([10]) ا هـ.
وقال في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة: (والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض، ولكنه سنة كما ذكرنا، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً في الصلاة فيشتركان في ذلك) ([11]) ا هـ.
الدراسة:
بعد اتفاق العلماء على مشروعية سجود التلاوة - كما سبق بيانه - اختلفوا في حكمه، فمنهم من قال بوجوبه، وذهب الجمهور إلى سُنيَّته وعدم وجوبه ([12]).
وقد رجح الإمام ابن عبدالبر أنه مسنون غير واجب، وقال: (فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله، ولا اتفق العلماء على وجوبه) ا هـ.
وما رجحه ابن عبدالبر هو الراجح، بل هو الصحيح الذي لاينبغي التعويل على غيره، فهو القول الذي تنصره الأدلة، وتقويّه وترجحه القواعد العلمية.
وقد بيّن ابن عبد البر هذه الأدلة، ورجح هذا القول بمقتضى القواعد العلمية الشرعية.
فأمَّا الأدلة؛ فقد ذكر منها ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ سورة النحل على المنبر يوم الجمعة، حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه، ثُمَّ لَمَّا قرأها في الجمعة الأخرى، وجاء السجدة قال: أيها الناس، إنَّا نَمُرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد - رضي الله عنه ([13]) -.
ووجه الاستدلال بهذا الدليل أن (القول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن والمجمع العظيم دليلٌ ظاهر في إجماع الصحابة وغيرهم أن سجود القرآن ليس بواجب) ([14]).
وجميلٌ ما قاله ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث قال: (ومِن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها مَن جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظّه ولاينكره عليه أحدٌ من الصحابة، ويكون الصواب فيها حظّ من بعده، هذا مِن أبين المحال!!) ([15]).
ومن الأدلة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة ما رواه البخاري في صحيحه، عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم {والنجم} فلم يسجد فيها ([16]).
ووجه دلالة هذا الحديث على عدم الوجوب، أن سجود التلاوة في سورة النجم ثابت شرعاً، كما في الأحاديث الصحيحة، ومع ثبوتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد، ولم يأمر زيداً - رضي الله عنه - أن يسجد لَمَّا قرأها، ولو كان السجود واجباً لأمره به؛ لأن من القواعد المقررة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز.
¥